القاهرة ـ مصر
Open post

إعجاز القرآن في كلمة (رَهْوًا)

لما اجتاز موسى عليه السلام البحر أراد أن يضربه مرة أخرى ليعيده إلى ما كان، فقال الله له: “وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ” (الدخان: 24)
نحفظ معنى هذه الآية من قديم، أي: اتركه كما هو على حالته ساكنا، ولكن السؤال الآن: ما المعنى أو المعاني الدقيقة لكلمة (رهوا)؟ ولماذا اختارت الآية هذه اللفظة المتفردة التي لم يستعملها القرآن إلا في هذا الموضع؟
أسئلة طرحتُها على نفسي، وهُرِعت إلى كتب اللغة لأدرس اللفظة أولا في مادتها المعجمية، فوجدت عجبا.
أولا ننظر ماذا قالت كتب اللغة في كلمة ( رهو):
تعددت المعاني لهذه اللفظة العجيبة، كما يلي:
١- فتْحُ ما بين الرجلين
رَهَا بين رجليه رهْوًا، أي: فتح رجليه.
٢- السكون
يقال: رها الشيءُ رهْوًا: سكن، وكل ساكن لا يتحرك: رَهْوٌ ، ورَهَا البحرُ، أي: سكن.
٣- الاتساع
وبِئر رهْوٌ: واسعة الفم، وامرأة رهْو: واسعة الهَنِ، وطريق رَهَاء: واسع
٤ ، ٥- المرتفع، والمنخفض من الأرض
والرهْو أيضا: ما اطْمَأَنَّ من الأرض وارتفع ما حوله، فالمنخفض من الأرض يسمى رهوا، ، وكذلك المكان المرتفع يطلق عليه رهو أيضا، فهو من الأضداد.
والرهْوَة: المكان المرتفع، والمنخفض يجتمع فيه الماء.
‏قال الأصمعي: ونظر أعرابي إلى بعير فالِج، فقال: سبحان الله! رهْو بين سَنامين، أي فجوة بين سنامين.
٦ ، ٧- الحركة أو السير السهل، والسريع.
ومن أضداد كلمة رهو أيضا أنها تطلق على السير السهل الذي فيه لين، كما تطلق على السير السريع، أو الحركة السريعة.
جاء في اللسان: الرهو: الكثير الحركة (ضد) وقيل: هو الحركة نفسها، والرهو أيضا: السريع … والرهو: سير سهل مستقيم.
(انظر لكل ما ذكرنا: اللسان والقاموس)
كل هذه المعاني ثابتة في اللغة لمعاني اللفظة القرآنية (رهوا) فهي من المشترك اللفظي (لفظة واحدة تشترك في معان كثيرة).
وإذا رجعنا إلى الآية الكريمة نجد أنها لفظة مختارة في هذا السياق، وتناسبه بشكل يثير العجب، والقاعدة الراجحة – لا سيما في التفسير – تقول: متى أمكن حمل المشترك اللفظي على كل معانيه أو أغلبها – كان أولى.
فهل يمكننا في هذه الآية حمل كلمة (رهوا) على المعاني السبعة التي أوردناها؟!
وكيف يكون ذلك ومن معاني الرهو معانٍ متضادة، فكيف يحمل الشيء على معنيين متضادين؟!
لو رجعنا إلى سياق الواقعة العظيمة التي جعلها الله آية ومعجزة لنبيه موسى عليه السلام فسنجد أنها أيضا اشتملت على متضادات، فالبحر كان نجاة له ومن معه، وهلاكا لفرعون في نفس الوقت، وكان ساكنا معه غير هائج حين مر منه، وبالعكس مع فرعون حين اجتاز هو وجنوده.
وبداية لا بد أن نتخيل هيئة البحر التي كان عليها حين حدثت هذه المعجزة، لقد انفلق البحر لموسى عليه السلام ، وشق الله له فيه طريقا يَبَسًا يمر منه، وكان البحر بهيئة عجيبة، كما جاء في آية أخرى”فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ” ( الشعراء: 63) فكان البحر فِرقين، أي: قسمين، كل قسم كالطود العظيم،والطود هو الجبل، فكانت هذه هي الحالة التي عليها البحر، طريق منخفض، على جانبيه جبلان من الماء، في حالة من السكون والهدوء، أمسك الله الماء حتى يجتاز موسى عليه السلام ومن معه، فلما اجتاز أراد موسى عليه السلام أن يعيد البحر مرة أخرى حتى لا يمر منه فرعون فيلحق به، فأمره الله ألا يفعل، وأن يترك البحر رهوا، ليمر فرعون دون أن يكمل مروره، حيث أراد الله أن يهيج عليه البحر أثناء المرور.
وبناء على ما سبق يمكننا أن نتدبر الآن معنى (رهوا) فنعيد نفس المعاني السبعة السابقة مع الآية الكريمة:
١- (رهوا) مفتوحا
يصور المعنى الأول هذا الانفتاح للبحر كهيئة من يفتح رجليه، وهي صورة ملموسة من الحياة تجعلنا نتخيل شكل البحر لكل من لم ير هذه المعجزة، فلك أن تتخيل نفسك وأنت نائم قد ضممت رجليك، ثم قمت بالتفريج بينهما لا سيما مع نصب الساقين، فإنك بذلك تتخيل شكل انفتاح البحر.
كما تعبر عملية الرهو هنا عن مدى سهولة انفتاح البحر حين ضربه موسى بعصاه كما يفتح المرء ما بين رجليه.
٢- (رهوا) ساكنا
أي: اترك البحر يا موسى على هيئته الساكنة التي مررت عليها، حتى يغر ذلك فرعون فيدفعه إلى المرور.
فلو تحرك البحر ولو حركة قليلة ربما أثارت الخوف في قلب فرعون فيُحْجم عن المرور.
٣- (رهوا) واسعا
اتركه هكذا طريقا واسعا، ليدخله فرعون وجنوده الكثيرون. ‏
فربما لو كان ضيقا لخشي فرعون من تزاحم جنوده الكثيرين أثناء المرور فيهلكون.
٤، ٥- (رهوا) مرتفعا، ومنخفضا
‏ وهذان الضدان في المعنى يعبران عن حالة البحر التي سبق عرضها، فقد كان البحر على هيئة ضدين أيضا، طريق منخفض بين جبلين مرتفعين من الماء.
٦ ، ٧- (رهوا) لين الحركة، وسريعها.
‏وهذا الضدان يعبران عن حالة البحر حين انفتح لموسى، وحين ينطبق على فرعون، فكأنه حين شُق لموسى كان بحركة سهلة يسيرة تدل على الترحيب بنبي الله ومن معه لكي يجتازوه، أما مع فرعون وجنوده فإن حركته حين يُطبَق عليهم حركة سريعة هائجة تدل على الانتقام والعذاب.
وكأن الآية تمتنّ وتبشر، تمتنّ على موسى أن الله جعل حركة البحر معه يسيرة، وتبشره بأن حركة البحر مع عدوه ستكون حركة انتقام منه.
فانظر كيف اختار القرآن هذه اللفظة من مفردات اللغة ليعبر عن كل هذه المعاني، فسبحان من كان كتابه مُعجِزا!
وفي النهاية كأن الله تعالى يقول لموسى: اترك البحر على ما هو عليه بكل هذه التفاصيل والمعاني، فكلها تعبر عن تدبير الله تعالى، ليتحقق المقصود الإلهي من هذه المعجزة التي كانت لنا آية رغم أننا لم نشهدها، يكفينا أن القرآن حكاها لنا بهذا العجب!
كتبه
بلال محمود طلب