ملخص سورة العصر أن الله تعالى أقسم على خسران الإنسان باستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتعاونوا فيما بينهم على الحق والصبر .
نظرنا متدبرين في هذه السورة في ( دورة معايشة القرآن ) فاستخرجنا منها نموذج النجاح ، النجاح بصفة عامة وليس النجاح المتعلق بالدين وعلاقة العبد بربه .
فإذا كانت السورة قد سيقت لتبيِّن الفالحين والناجحين والناجين من الخسر عند الله تعالى يوم القيامة ـ فما المانع أن تكون نفس المنهجية لنجاح المؤمنين عند الله هي نفس المنهجية للنجاح في كافة أعمالنا المهنية والصناعية والتجارية ؟ لماذا لا نعتبر السورة منهجية في وضع أسس النجاح لأي عمل .
لماذا لا يقتدي المسلمون والشباب بسورة العصر في كل أعمالهم ومشروعاتهم التجارية لتحقيق النجاح والقوة التي لا ننهض إلا بها ، ولا نستطيع أن نعيش بديننا وننشره في العالم إلا إذا تمسكنا بأسباب القوة التي تجبر الجميع على احترامنا .
سورة العصر مثال عظيم لنموذج النجاح ، نستطيع أن نقيس عليه كل نجاح ، فشروط النجاح ومعاييره طبقا لمنهجية سورة العصر هي :
1 ـ الإيمان بالفكرة :
فأي نجاح بدايته فكرة يتحمس له صاحبها ، ويؤمن بها وتجعله يجاهد من أجلها ، ويتفانى في إقناع الآخرين بها وجذْبهم إليها ، وكل أصحاب المشروعات والمؤسسات الناجحة كانت بداية نجاحهم أنهم تبنوا فكرة ، آمنوا بها وعاشوا مجاهدين من أجلها ، وهذا المعنى مأخوذ من سورة العصر ” آمنوا ” .
2 ـ العمل من أجل الفكرة :
فالإيمان بالفكرة وحده لا يكفي لإنجاحها ، فلا بد من عمل دءوب وسعي حثيث منظم ومستمر من أجل تحويل الفكرة إلى واقع عملي ، وإلا ستظل الفكرة مجرد حديث نفس وخواطر تجول في عقل صاحبها .
وهذا معنى قوله تعالى في سورة العصر ” وعملوا ”
3 ـ الالتزام بمعايير العمل والنظم الموضوعة لنجاح أي عمل :
فلا يكفي لتحقيق النجاح في أي مشروع أو بناء مؤسسة أن يكون العمل ارتجاليا وعشوائيا وفق ما يمليه الهوى والمزاج ، بل لا بد من أن يكون العمل وفق نظام متبع وطبقا لما تقوله القواعد الإدارية والفنية ، وأن يبدأ من حيث انتهى الآخرون وما توصلوا إليه من تجارب ومناهج ناجحة .
فالعمل وحده لا يكفي للنجاح ، بل لا بد أن يكون عملا صحيحا .
وهذا المعنى أفادته سورة العصر في قولها ” الصالحات ـ بالحق” فالحق والعمل الصالح في الشرع يعني ما كان موافقا لمنهج الكتاب والسنة لأنهما مصدر الصالحات في الإسلام ، أما في شئون حياتنا فمصدر الصواب والخطأ في العمل هو العلوم والأبحاث والتجارب والخبرات ، ولا مانع عندي من تسميته بالصالحات أيصا ، فالصالح من العمل هو ما يصلح أن نقوم به سواء كان مصدر صالحيته الوحي أو التجارب والعلم .
4 ـ التعاون على الصواب والتزام فريق العمل كله بذلك :
كل ما سبق لا بد أن يتعاون فيه الجميع ، فليس التزامَ فرد أو أفراد ، بل هو التزام كل فِرَق العمل ، ومن حاد منهم يرده باقي الفريق إلى رشده وصوابه ، وعلى القائد أن يكون منتبها لهذا ، فلا يصلح عمل بدون تعاون الجميع واتفاقهم على اتباع منهجية صحيحة ، يكافأ من يلتزم بها ، ويعاقب من يخرج عنها .
وهذا المعنى العظيم في التواصي والتعاون بين فريق العمل ترسيه هذه السورة العظيمة في قوله تعالى ” وتواصوا ” مرتين ، مرة مع الحق ومرة مع الصبر .
5 ـ الصبر والمثابرة :
فلا نجاح بلا مثابرة ، ولا إنجاز بلا صبر وتحمُّل ، ومن استعجل النتائج قبل أوانها باء بالخسران ، فأي مشروع يحتاج إلى نفَس طويل ، وأي نجاح عظيم يفتقر إلى صبر أصحابه وعدم يأسهم وقنوطهم ، وكم من فكرة عظيمة وعمل كبير لم يكتمل بسبب أن أصحابه قنطوا في الطريق ولم يتحملوا أعباءه ومشاقه ، فبالصبر والأمل وطول النفس والثبات على المبادئ والطموح العالي تنجح الأفكار الجيدة ، فجودتها والعمل لها لا يكفيان لنجاحها بدون صبر .
وهذا الشرط في تحقيق النجاح هو ما خُتمت به السورة “وتواصوا بالصبر” .
إن سورة العصر بهذا لا ترسم للمؤمنين فحسب منهجية نجاحهم في الآخرة ، بل تضع منهجية نجاح ـ أي نجاح ـ لكل من أراد أن ينجح ، وعلى المؤمنين الواعين أن يتخذوا من القرآن المنهجيات والنماذج الحضارية لكي يملكوا الدنيا بأيديهم ، ويحققوا الاستخلاف المنوط بهم .
إن نموذج النجاح الذي وضعته سورة العصر يصلح لأن يكون منهجا تُبنى عليه العقول ، وتربَّى عليه الأجيـال ، لكي يعرفـوا أن للنجاح شـروطا وأسبابا ، وأن سننه لا تتخلف عن أحد ، فمن أخذ بأسبابه وُفق ولو كان كافرا ، ومن تخلى عن أسبابه تخلى عنه النجاح ولو كان مؤمنا .
فمتى تتربى الأجيال على ما أرساه القرآن من نماذج تصنع حاضرهم ومستقبلهم ؟ ومتى يفهمـون أن كتـاب الله تعالى ليس للقراءة التي يأخذون بها عشر حسـنات على الحرف فحسـب ؟!