القاهرة ـ مصر
معايشة القرآن الكريم

خواطر (حوار مع قلمي) 33 خاطرة

خواطر (حوار مع قلمي) يكتبها الدكتور/ بلال محمود طلب

الخاطرة الأولى:

لما رأيت كلام الناس لا يجدي استنطقت قلمي فقال : مرحبا ! طال البعد ! فلِمَ كل هذا المغيب ؟ قلت : رجوت خيرا من كلام الناس . فقال : ويحك ! ماذا كنت ترجو منهم ؟ وهم إنما يعبرون عن أنفسهم ، أما أنا فأعبر عما في نفسك ، فكيف تتركني إلى غيري ؟! قلت : صدقت . قال : قد عرفت فالزمني ولا تكرر الخطأ فتشقى !

الخاطرة الثانية:

شكوت إلى قلمي همي فقال لي : أمسك بي واكتب ما يجول بخاطرك ، فكل من كتبوا بي وهم في مثل همك كتبوا دررا ومشاعر تتجاوز حدود الزمان والمكان . قلت : ثم ماذا بعدما أكتب بك كل هذا ؟ قال : أن يتمنى الناس من بعدك أن يكونوا في مثل همك ليكتبوا بي ما كتبت .

الخاطرة الثالثة:

جلست أحادث قلمي يوما فقلت له : الآن عرفت مكانتك حين رأيت العلماء والكُتّاب ما ارتقوا إلا بك . فقال لي : ما صنعت لي شيئا بهذا الكلام ؟ قلت : كيف ؟ قال دعك من مكانتي فهذا أمر قد أُبرم في السماوات العلا حين أقسم الله بي (ن والقلم وما يسطرون ) فلا أحتاج إلى مدحك . انشغل بما هو أفضل . قلت : وما هو ؟ قال: أن تصنع لنفسك بي مكانة وذكرا .

الخاطرة الرابعة:

قلت لقلمي : ما أنت إلا عود من خشب أو غيره له سن يخط به من يكتب بك ! قال : لا تنظر إلى صغر حجمي ، ولكن انظر إلى حجم ما يكتب بي ، هل تعرف تاريخا حُفظ أو حضارة قامت أو مجدا شُيّد إلا بما كتب بي ؟! قلت إذن لا قيمة لك إلا بما كتبت ! قال : ولا قيمة لك أنت أيضا أيها الإنسان إلا بما كتبت وعملت ، ويبقى لي الفضل عليك في أني لا أحاسَب على شر كتبتَه بي ، بل تحاسب أنت .

الخاطرة الخامسة:

قلت لقلمي : كيف السبيل إلى أن يحسن الإنسان بك الكتابة وأن يحظى بك مكانة ؟ قال : كالسبيل إلى أي شيء يتمناه الإنسان . قلت : كيف ؟ قال : بداية الإتقان أن يفعل الإنسان الشيء بلا إتقان ، ولا يزال يفعله حتى يتعوده ، ولا يزال مستمرا عليه حتى يتقنه . قلت : إذن يطول الأمر والعمر قصير ! فضحك القلم وقال : من كتبوا بي طالت أعمارهم بعد موتهم ، وكان ما كتبوه أطول عمرا منهم .

 

الخاطرة السادسة:

جلست يوما مهموما فإذا بقلمي يسالني : ما أهمك ؟ قلت فعال الناس يشيب الناصيات ! فقال : وأيضا فعالك بالنسبة لهم يجعل الولدان شيبا ! قلت : كيف ؟ قال: هم أيضا يستنكرون عليك كما تستنكر عليهم ، ويشقون بك كما تشقى بهم ، ويزهدون فيك كما تزهد فيهم ، ويرونك كما تراهم ! فلم العجب ؟ قلت : ما الحَكَم بيني وبينهم إذن ؟ قال القلم : قد سطر الله بي قوله “إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون” فدع عنك هذا كله وانشغل بما ينفعك ، واكتب بي ما يجول بخاطرك .

الخاطرة السابعة:

جلست يوما منصرفا عن قلمي أجول بخاطري بلا قلم ، فناداني من بعيد : ما بك ؟ ولمَ تفكر وحدك ؟ وأين أنا منك ؟ ألم نتعاهد ألا نفترق ؟ قلت : دعني وشأني ؛ فقد كتبتُ بك الكثير مما أحس به وما أغنيتَ عني شيئا ؟ فقال : أخطأت ! كم من حكمة نشرتَها قد كتبتها بي ! وكم من مشاعر قرأها غيرك فتعزوا بها ! وكم من نصيحة بثثتَها فانتفع بها قارئها ! كل هذا وتقول ما أغنيتُ عنك شيئا ! قلت : هم استفادوا مما كتبت ، فأين أنا فما زال خاطري يتعبني ؟! فقال : لا أراح الله خاطرك ! قلت له: أتدعو عليّ ؟!! أهذا ما أناله منك ؟!! قال : بل أدعو لك . قلت : كيف ؟ قال : قد أجبتك .

الخاطرة الثامنة:

قلت لقلمي : لماذا أقسم الله بالقلم ؟ قال : لأمور كثيرة وعظائم جليلة يطول ذكرها ! قلت : اذكر لي أهمها . قال : أهمها ثلاثة أمور : قد سُطر بي القرآن في السماوات وفي الأرض ، وإذا كُتِب بي الحق حُفظ وانتشر ، وإذا رددت على الباطل زهق واندثر .

الخاطرة التاسعة:

قلت لقلمي : أنت النديم الذي لا يخون ، وأنت الصديق الذي لا يكذب ، وأنت المعين الذي لا يخذل ، وأنت الناصح الذي لا يقصر . فقال : نعم ، ولكن احذرني في ثلاثة مواطن ، لا تجدني إلا العدو الذي لا يرحم . قلت : اللهم غوثا ! أخبرني بها فما عرفتك إلا وفيا . قال : احذر أن تكتب بي باطلا فأقلب السحر على الساحر ، واحذر أن تنافق بي فأفضحك على الملأ ، واحذر أن تهاجم بي بريئا فأكون عقوبة ووبالا عليك . قلت : ولكن كيف تنتقم في هذه المواطن ؟ قال : أكون أداة لأهل الحق عليك ليكتبوا ما يكشف باطلك .

الخاطرة العاشرة:

سألت قلمي مرة : ما أحسن شيء تكتبه ؟ فقال : هو أحسن شيء تقوله . قلت : لا أفهم ؛ أجبني بتوضيح أكثر ؟ قال : ولا أجيبك حتى تعرف أن هناك شيئا تحسنه ولكنك غافل عنه ، ففتش في نفسك تجد الكثير مما تكتبه . قلت : إذن قل لي ماذا أحسن حتى تكتبه . قال : إن لم تعرف ماذا تحسن فغيرك أقل منك معرفة بنفسك ! قلت : فهمت ، فأعطني علامة أعرف بها ما أحسنه . قال : جرب واكتب فإن وجدتني أنساب معك في الكتابة فهذا دليل على ما تحسنه . قلت : أحسنت صنعا حين أرشدتني ! قال : وأحسنت صنعا حين سألتني !

الخاطرة الحادية عشرة:

أمسكت بقلمي لأكتب فتعثرتُ في الكتابة ؛ أذكر المبتدأ ولا أجد له خبرا ، وأذكر الموصوف وأحتار في الصفة ، وأذكر الفعل وأعجز عن الفاعل ، فقال القلم : ما بالك هذه المرة ؟ أين طلاقة كلماتك ؟ قلت : لا أدري ! صرت حائرا في الكلمات التي تعبر ، والجمل التي تفصح عما بداخلي ! فقال : أوَصلتَ إلى هذه الحال ؟! قلت : نعم وصلت ! فقال : أبشر . قلت : بم تبشرني ؟ قال : ما وصل أحد إلى ما وصلت إليه إلا كان عقله الحائر ينبوعا لأحسن الأفكار ، وكان قلبه المتأجج بالمشاعر وقودا لأرق العبارات ، فلا تترك الكتابة وإن تعثرْتَ ، ولا تهجر القلم وإن تلعثمْتَ . قلت : فمتى تُفكّ عثرتي ؟ فضحك وقال : قد فُكّت وكتبتَ خاطرة اليوم .

الخاطرة الثانية عشرة:

هاجمت قلمي فقلت له : أنت نهايتك ومقامك كتاب يخرج للناس ، ولن يقرأه أغلبهم ، وما أكثر الكتب في الأسواق وعلى أرصفة الطرقات ! فلا تدَّعِ لنفسك فضلا أكثر من هذا ! هنا قهقه القلم حتى دمعت عيناه ، وقال : اسكت يا عزيزي ! لا تقل هذا لأحد غيري حتى لا تُتّهم ، ولولا ما بيني وبينك من عهد قديم لا أخونه لاتّهمتك أنا أيضا ! قلت : ألهذه الدرجة ترى كلامي باطلا ؟! قال : وأراه لا قيمة له !! قلت : مهلا مهلا ، لم كل هذا ؟! قال : يا عزيزي ، تقلل من قيمة الكتاب !! وهل الحق إلا كتاب نزل من السماء ؟! وهل دعوة كل الأنبياء والرسل إلا كتب ورسائل من الله ؟! وهل المجد والحضارة إلا كتاب ؟ وهل الصديق الوفي إلا كتاب ؟ وأنتم تسمون أهم عقد لكم في الحياة الزواج (كَتْب الكتاب ) فماذا بقي في الحياة بعد الكتاب ؟! هات لي شيئا له قيمة في الحياة وأنا أخبرك بقيمة الكتاب فيه ، اسكت أفضل لك ولا تعد لمثلها . هنا طأطأت رأسي واستحييت من نفسي ، وقلت : ويل لمن يقول كلاما دون أن يتأمل فيه قبل أن يقوله .

الخاطرة الثالثة عشرة:

رآني قلمي مهموما فقال : ما لي أراك على هذه الحال ؟ قلت : اتركني ! قال : لا أتركك حتى تخبرني فلست بالصديق الذي يترك حبيبه وقت اغتمامه ولو قال له اتركني . قلت : ما عاد الزمان زمانك ولا الناس ناسك ! قال : كيف ؟ قلت : نافق القوم وفسد الذوق وما عادت كلماتك تروق لمثل هذا الزمان ، وما عاد الشعر الذي سطرته يصلح للفهم واستثارة المشاعر ، فليس هذا عصر الكتابة والأقلام إنما هو عصر الخرافات والهذيان . فقال : يا عزيزي هدِّئْ من روعك ، واسمع مقالتي . قلت : قل أسمعْ . قال : كيف كان حال الناس حين ابتعث الله رسله ؟ وكيف كان حال العرب حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : في أسوأ حال . قال : ولو كانوا على خير وصلاح فلماذا تكون بعثة الرسل إذن ؟! ولو كانت المجتمعات صالحة لما احتاجوا إلى المصلحين ! وحاجة الناس إلى ما تكتب في فسادهم أكثر من حاجتهم إليه وقت صلاحهم ، اكتب يا صديقي فما ذكرته من فساد الحال أدعَى لأن تكتب وتكتب حتى يُصلح الله بما تكتب ، اكتب ليتعلم الناس ذوق الكلمة بما تكتب ، اكتب لتنشر فضيلة أو علما ، اكتب لتحارب رذيلة أو جهلا ، اكتب فهذا زمن الكتابة والإصلاح .

الخاطرة الرابعة عشرة:

سألت قلمي يوما : لقد أتعبتني واحترت في أمرك ، تصنع الفكر ولا عقل لك ، وتبني الحضارات ولم تشمر عن ساعديك يوما ، وتشيد المجد وأنت العود الصغير ! فتبسم القلم وقال: أعن حسد أم تعجب ؟ قلت : بل أعجب ! قال : أنا أريحك وأضبط لك المسألة . قلت : هات ما عندك ! قال : الجواهر الثمينة تزين النساء وتصنع الثروات للرجال وتحفظ في الخزائن لقيمتها رغم أنها لا عقل لها ولا ساعدين وحجمها صغير مثلي ، أليس كذلك ؟ قلت : بلى ! قال : كذلك أنا جوهرة وكنز لصاحبه ، وزينة للكُتّاب يُنسبون إلي ويلقبون بي ، وفوق كل هذا وصلتْ قيمتي إلى أن يضعوني في جيب القميص الذي فوق القلب . قلت : صدقت . قال : الآن فهمت وارتحت ؟ قلت : أراح الله سنك .

الخاطرة الخامسة عشرة:

غازلت قلمي فقلت له : أحبك وأحب من يحبك ، وأولع قلبي بحبك ، وهامت نفسي في حبك . فقال : مهلا مهلا ! أهذا عشق وهيام ؟ قلت : بل أكثر ! قال : أجعلتَ ما بيني وبينك كما بين العاشقين ، لست امرأة تتغزل بها ، ولا أنثى تولع بجمالها ، ولا فتاة يعجبك دلالها ! قلت : أنت خير لي من هذا كله ! قال: كيف ؟ قلت : حبك يصلح القلوب وحب العاشقين يفسدها ، حبك يزيد بالقرب والاتصال وحب العاشقين يزيد بالبعد والحرمان ، حبك لا ينحل الجسد ولا يصيب بالحزن كما يصنع العشق بالعاشقين ، فلماذا لا أحبك أفضل من حب العاشقين ؟ قال : أصبت كبد الحقيقة ونلت إعجابي هذه المرة . قلت : هذا يعني أني ما أعجبتك في المرات السابقة ! فابتسم وقال : أقصد أعجبتني أكثر هذه المرة . فضحكت وقلت : وجدتَ مخرجا ! فقال : ولا يُعدَم اللبيب مخرجا !

الخاطرة السادسة عشرة:

قلت لقلمي : عجبا لك ! لماذا لا تبدع إلا في أيدي المهمومين والحيارى المكلومين ؟! أبدع بك الشعراء في أوقات لوعتهم ، وتفنن بك المصلحون في وقت معاناتهم ومعاداة الناس لهم ، وترجم بك أهل الهمّ حزنهم في كلمات عابرة للزمان والمكان . فلِمَ كل هذا ؟ قال : يا صديقي أجيبك بصدق لعلك ترتاح ، كل هؤلاء يبدعون بي أكثر من غيرهم لسببين : فروا من الواقع الذي أحزنهم فلم يجدوا سواي ليعبروا عن أشجانهم ، ولو سعدوا بواقعهم لشغلتهم السعادة عني. قلت : نعم صدقت ، فما السبب الثاني ؟ قال : لوعة الحزن والألم تخرج من المرء أفضل ما عنده ، فهل تعرف أحدا يرفع يديه للدعاء لله يجيد في دعائه أكثر من المضطر المكلوم ؟ قلت : لا . قال: كذلك الأمر معي ، ما أمسك بي أحد وهو في مثل هذه الحال إلا كان كلامه معبرا ، وبثه صادقا ، وشعره رقيقا ، وكلماته مُصلحة .

الخاطرة السابعة عشرة:

قلت لقلمي : تُرى هل أنا ممن يحسنون الكتابة بك أم أني من هؤلاء الأدعياء السوقة الذين يروّجون الضبلالات بأقلامهم ، أو يكتبون التفاهات لأهل السفاهة ؟ فقال لي : وهل تحتاج إجابتي ؟ قلت : وإلا ما سألتك ! قال : لا يا صديقي أنت لا تحتاجني في هذا . قلت : كيف ؟ قال : لأنك أدرى بهذا مني ! قلت : سبحان الله ! كيف أعرفه وأسأل عنه ؟ قال : تعرفه من قُرّائك . قلت : أوضح لي أكثر . قال : أنت بمن يقرأ لك ، فانظر إلى حال من انصرف عنك فأنت على خلافه فيما تكتب ، وانظر إلى من يقرأ لك فأنت على سنته وطريقته . قلت : الآن عرفتُ . قال : إذن أخبرني الآن عن قرائك حتى أعرفك ! قلت : أتركهم لك يخبروك !

الخاطرة الثامنة عشرة:

تأخرت ذات ليلة على قلمي فاستبطأني ، ولكنه ظل في انتظاري ، فلما حضرتُ قال لي بلهفة: أين كنت يا عزيزي ؟ قلت : كنت أنوي ألا أجيء ولكني رجعت عن نيتي خشية قلقك علي ! قال : ولم نويت عدم المجيء ؟ قلت : ليس عندي ما أكتبه فلماذا المجيء ؟ قال : وهل لا تجيء إلا وفكرتك حاضرة ؟ قلت : هذا ما أعتقده ! قال : لا يا صديقي ، تعال وإن لم تكن فكرتك حاضرة ، وأمسك بي وابدأ أن تخط بي أول كلمة وستجد الكلمات تنساب على قرطاسك وانت لا تشعر . قلت : أوحقا ما تقول؟! قال : جرب الآن وانت ترى . فبدأت أكتب كما قال وأنا لا أدري ماذا أكتب ، ففتح الله بتلك الكلمات . فقلت له : صدقت . فقال : اسمع لي وأطع أهدك صراطا سويا.

الخاطرة التاسعة عشرة:

استيقظت ذات ليلة على صوت رخيم يقول لي : انهض فما نوم كل الليل بمستساغ ! ففتحت عيني فإذا القلم يجلس بجواري . فقلت : لم توقظني ؟ أما تركتني نائما لأرتاح ؟! فالنوم راحة الحيارى ، وسلوى الثكالى . فقال : هذا وقت السحَر ، وهو نعمة للحيارى ؛ فيه يهديهم ربهم من حيرتهم ، ورحمة للثكالى ؛ فيه يخفف الله عنهم آلامهم . قلت : نعم ،هذا كله مع الله ، فما شأنك أنت ؟ فابتسم وقال : ما أحلى الكتابة بعد ركعتين في غسق الدجى ! وما أعظم ما تسطره وقت صفاء القلب والذهن وقد استغفرت ربك فزال ما على قلبك من رانٍ ! فهنالك تأتي الكتابة على ما يرام . فقلت : إذن توقظني لمصلحتك أيضا ! فقال : يا عزيزي ، كلاهما لمصلحتك أنت ؛ تصلي من الليل فتُصلح ما بينك وبين ربك ، ثم تكتب بي فتُصلح ما بين الناس وربهم بما تسطره من خير . قلت : الآن فهمت ! فقال : والآن انهض !

الخاطرة العشرون:

قلت لقلمي : ما أعجبك أيها القلم ! قال : مم تتعجب ؟ قلت : يظل الهمّ نارا في داخلنا يحرق قلوبنا فإذا ما كتبناه بك انفرج ما في النفس ، وخف الحِمل عن القلب . قال : اتدري لمَ ؟ قلت : أخبرني . قال : لأن الصدر ضيق بالهم فإذا بثثته انطلق في فضاء فسيح ، والهم في الصدر همك وحدك فإذا كتبته فقد شاركت غيرك فيه فصار هم الجميع ، والقاعدة تقول : الخَطْبُ إذا عمّ خفّ . والهم في الصدر هواجس وظنون وأحاسيس قاتلة أما إذا كتبته صار فكرة بنّاءة وكلمات براقة تسعد صاحبها فيخفف عنه همه . قلت : أحسنت وأبدعت ! أجبتني بالقول الفصل ! دائما تنطق بالحق وتقول الصدق ! قال : وأنت دائما تستثيرني لأقوله ! قلت : لأستثيرنّك دائما ! قال : ولأصدقنّك أبدا !

 

الخاطرة الواحدة والعشرون:

قلت لقلمي معجبا به : قد طال عمر القلم ولم تَهْرَم ، أتقنتَ كل اللغات التي تكتب بها ولم تنسَ ! كتبت ملايين الكتب ولم تتوقف ! وبنيت الأمم وشيدت صروحها ولم تتعب ! كم من عرش للظلم قد أسقطتْه كلماتُك ! وكم من فساد عم وانتشر في الأرض قد أوقفته أفكارك ! فمن تكون؟! وأي إمكانات لديك ؟! قال : يا صديقي أنا المَعين الذي لا ينضب ، والمُعين الذي لا يَخذل ، والبحر الذي لا يُغرق ، والمِداد الذي لا ينفد ، والعقل الذي لا يعجز ! أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ، وأسمعتْ كلماتي من به صمم (على حد تعبير المتنبي) قلت : فماذا أبقيت لنا معاشرَ البشر ؟ فقال ضاحكا : أنا بكم وأنتم بي ، فباليد التي تمسك بي صنعت كل هذا ! قلت : هل تصنعه بنا أم نصنعه بك ؟ فمن الأصل ومن الفرع ؟ من المستخدِم ومن المستخدَم؟ قال : دعك من هذه الفلسفة والقسمة الضيزى ! المهم أن الإنسان والقلم يصنعان كل هذا . قلت: صدقت !

الخاطرة الثانية والعشرون:

سألت قلمي : لمَ الكتابة ؟ أما يكفي ما نقوله ؟ فالقول أسهل علينا وأيسر ! فتبسم ضاحكا من قولي ، وقال : “رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي” قلت : مم تتبسم ؟ ولماذا هذا الدعاء ؟ قال : شكرا لله على نعمته على القلم ! قلت : وما هذه النعمة ؟ قال : يا عزيزي أخبرك بفضل ما يكتب على ما يقال ! قلت : قل . قال : ما يقال هباء كثير وما يكتب كنز قليل ، ما يقال يذهب وما يكتب يبقى ، ما يقال يحسنه كل الناس وما يكتب لا يحسنه إلا صفوة الناس ، وفوق كل هذا ما يقال صناعة الثرثارين وما يكتب صناعة المفكرين ، فأين أنا وما سطرته ـوقدأقسم الله بنا ـ من اللسان وما يقوله ؟! وقد جُعل سببا لكبّ الناس على وجوههم في جهنم .

الخاطرة الثالثة والعشرون:

حاورت قلمي متعجبا منه فقلت له : أنت صغير وهذا كبير فِعالك ! هادئ وهذه صرخات كلماتك ! بسيط وهذه تعقيدات كتبك وفلسفات كُتّابك ! من يراك يظن أنك لا شيء ، وفي الحقيقة أنت كل شيء ! فلماذا أنت هكذا ، أخبرني عسى أن نكون مثلك ! فنحن ندّعي العلم والعظمة ولم نصل إلى ما وصلت ! فقال : أخبرك يا عزيزي ، لأنكم تنظرون إلى الشيء في مبتداه ، وأنا أعمل لمنتهاه ! أنتم تقيسون الأمور بالأشكال وأنا أقيسها بالأعمال ! أنتم تحقرون الشيء لشكله وأنا أحتقر الشيء لمضمونه ! أنتم تعملون في ضجيج وأنا أعمل في صمت فكنت أكثر نتاجا ، أنتم تعظمون الحكام ورءوس الأموال ، وأنا أعظّم الحِكَم ورءوس الأقوال . قلت : بهذا سُدتَ وحُزْتَ السؤدد والشرف . قال : وبهذا أيضا يحوزه من كنت له قرينا.

الخاطرة الرابعة والعشرون:

انتابني يوما شعور بالضيق من واقعنا ، فهممْت أن أكسر قلمي فقال : مهلا مهلا ! لماذا؟ اعلم قبل أن تكسرني أنك تكسر نفسك ، فأنا في أيادي الملايين غيرك ! فلماذا تكسر قلمك ولسان قلبك ؟ قلت : ما عدتَ تغني عني شيئا ! قال : ولم ؟ قلت : الناس لا يقرءون ، وإذا قرءوا لا يفهمون ! وإذا فهموا لا يعملون ! وإذا عملوا لا يخلصون ! وإذا أخلصوا كانوا شواذ ومجانين في نظر غيرهم ! فلماذا أكتب بك ؟! قال : يا عزيزي اسمعني ، ثم افعل بعد ذلك ما تشاء ! قلت : قل . قال : سيأتي اليوم الذي يقرءون فيه ويفهمون ويعملون ويخلصون ، بل سيأتي اليوم الذي يُعدّ فيه من لا يقرأ شاذا منبوذا ! قلت : من أين لك أنه سيأتي ؟ قال : قد أتى على أمم غيرنا فكيف لا يأتي علينا ونحن أمة القراءة والقلم وما يسطرون ! قلت : لكن الأمم الأخرى أدركوا ما لم ندركه ! قال : قد أدركنا ذلك قديما فسبقناهم وكنا سادة العالم علما وحضارة ، فلما نمنا سبقونا ، وهكذا الأيام دُوَل . قلت : متى نستعيد عزنا وندرك ما فاتنا ؟ قال : علْم ذلك عند ربي ولكنه آت لا محالة ، وكلما كتبتَ أنت وغيرك عجّلتم من وقت مجيئه . قلت : وإذا متنا قبل أن نرى ذلك اليوم ؟ قال: تكونون قد أديتم واجبكم وأعذرتم أنفسكم عند ربكم ، وغرستم ليجني مَن بعدكم ثمار غرسكم .

الخاطرة الخامسة والعشرون:

تغيبت عن قلمي أياما فلما عدت قال : أين كنت ؟ قلت : ألا تسلم أولا وتستقبلني كما يستقبل الصديق صديقه ! قال : تغيبك عن قلمك أهم في السؤال عنه من مراسم الاستقبال ، دع قبلات التلاقي وأحضانه لغيرنا ، وأخبرني أين كنت ؟ قلت : كنت مريضا فلم أكتب . قال : ومنذ متى والمرض يمنع صاحبه من الفكر والكتابة ؟! قلت: العقل السليم في الجسم السليم . قال : دع هذا الكلام يقال في الإذاعة المدرسية، فمثلك لا يقوله ! قلت : فماذا تقول أنت ؟ قال : العقل السليم والفكر الناضج لا يعتل باعتلال الجسد ، والمصلحون لا يوقفهم المرض عن مسيرتهم . قلت : كيف يستطيعون وهم مرضى ؟ قال : أنا لا أقول يسافرون أو يحاربون ، وإنما قلت : لا يتوقف فكرهم وقلمهم ! قلت : من أين لك هذا الرأي ؟ قال : يا صديقي ليس مجرد رأي ، إنه والله لحق ! قلت : أقم لي دليلا عليه ! قال : نبينا صلى الله عليه وسلم ما توقف عن دعوته وهو مريض مرض الوفاة ؛ فأوصى وأمر ونهى . وأبو بكر الصديق استخلف عمر وشاور فيه الناس وأخذ له البيعة وهو على فراش الموت . وعمر بن الخطاب لم تمنعه طعنة المجوسي أن يضع خطة محكمة لاختيار الخليفة من بعده . قلت : نعم صدقت في كل هذا . قال : إذن جرب واكتب بنات أفكارك وأنت مريض ، ولسوف تجد صحة كلامي . قلت : في المرض القادم إن شاء الله فقد عوفيتُ من هذا . قال : لا أراكه الله ثانية ! قلت : آمين .

الخاطرة السادسة والعشرون:

قلت لقلمي أخبرني بسر عنك لم تبُحْ به لأحد من قبل ! قال : أوتتحمل ما سأقوله لك ؟! قلت : نعم . قال : من كتب بي حقا ونشر بي صدقا ولم ينافق بي ولم يخادع احدا كنت سببا في أذاه في حياته ، ولكني بعد مماته أرفع ذكره وأجعله سيدا في الآخرين . قلت : ولم تجعل هذا سرا ؟ قال : حتى لا يصُدَّ الناس عني بسبب ما أحْدِثه لهم من أذى عاجل . قلت : ولم أخبرتني بهذا الأمر ؟ قال : أنت الذي طلبت ! قلت : طلبت سرا ، وما كنت أظن أنه هذا ! ليتك لم تخبرني ! أما وجدت سرا آخر لتخبرني به ! قال : يا عزيزي! ليس من شيم الرجال أهل القلم أن يجزعوا أو يتقهقروا ، فالطريق أمامهم طويل إلا أنه لا رجعة فيه ، فلا تخف من ضرر عاجل في نفع لاحق ، فالعبرة بالخواتيم ، والعاقبة للمتقين . قلت : ماذا لو صدني هذا الذي بحْتَ به عن الكتابة ؟! فأنا بشر يصيبني ما يصيبهم من الخوف والقلق ! قال : عليك بأمرين يثبِّتانِك على الحق . قلت : ما هما ؟ قال : تذكر أن الأقدار قد كتبت ورفعت الأقلام وجفت الصحف ، فلن يصيبك إلا ما قُدر لك . قلت : نعم صدقت ، فما الأمر الثاني ؟ قال : تكفيك هذه الآية ” إن معي ربي سيهدين ” .

الخاطرة السابعة والعشرون:

سألت قلمي : لطالما قارن الناس بينك وبين السيف ، فأنت أداة الفكر والكتب ، والسيف أداة الحرب والفتوح ، فأيكما أفضل ؟ أخبرني . قال : يا صديقي بالقلم تُبنى الحضارات وبالسيف يُقاوَم أعداء الحضارات ، فنحن ضرورتان لكل مكرمة ، ولازمان لكل دولة ، وقد جمع المتنبي بين أدوات الحرب وأدوات الكتابة يفاخر بهما، فقال ( والخيل والليل والبيداء تعرفني ،،، والسيف والرمح والقرطاس والقلم ) قلت : سلَّمتُ لك أن الجمع بينكما ضرورة ، وكلاكما يكمل صاحبه ، ولكن لا بد من أن أحدكما أفضل من الآخر ؟ فمن أفضل : أنت أم السيف ؟ ولا تهرب من سؤالي ، أم أنك لا تريد مفاضلة أنت فيها طرف فتخشى من عدم الإنصاف في الحكم . قال : لا شك أن المفاضلة أمر صعب ، ولكني سأحاول إقناعك . قلت : قل . قال : الأفضل منا حسب اليد التي تمسك بنا ، فالسيف أفضل لأهل السيف ، والقلم أفضل لأهل القلم ، والسيف له موضعه والقلم له مواضعه . قلت : لم جمعت مواضعك وأفردت موضع السيف ؟ قال : أليست هذه الحقيقة ؟ السبف للحرب وليست الحرب أصلا وهي نادرة ، أما القلم ففي كل وقت وحين . قلت : بهذا بان لي أيكما أفضل ! قال : الحمد لله أن فهمت دون أن أفصح . قلت : الحمد لله أن جعل تلميحك أبلغ من تصريحك .

الخاطرة الثامنة والعشرون:

قلت لقلمي : متى نفترق ؟ فقال : فاجأتني بسؤالك ! قلت : ليس من شأني المفاجآت ، وليس الحكيم بمن يفاجئ دون أن يمهِّد .، ولكن هكذا نطق لساني ، فاعذرني وأجبني : متى نفترق ؟ قال : ما نطق لسانك بهذا إلا لشيء وراءه في قلبك ! قلت : نعم . قال : وما في قلبك أخبرني ؟ قلت : أجبني عن سؤالي أولا ! قال : ستأتي إجابتي حسب إجابتك فهي فرع عن أصل ! قلت : في قلبي هم واستشعار بمسئوليتك ، وصرتُ أعتقد أن الكتابة فرض فزادني هذا غما بغم ، وصرتُ متعلقا بك فحملتُ همَّ فَقْدك ، فاتركني الآن قبل أن تصير لي إدمانا ! فأجبني الآن : متى نفترق ؟ فقال : الآن عرفتُ أننا لن نفترق إن شاء الله . قلت : كيف ؟ لقد زدتني هما بإجابتك هذه ! قال : يا عزيزي من تعلق بشيء لا يفارقه ما دام في يده ، وأنا على عهد مع الله ألا أفارق يدا أمسكت بي ما دامت لم تتركني هي ، فكيف أفارقك ؟ قلت : من أين أتيت بهذا العهد ؟ قال : ألم تقرأ قوله تعالى “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” فما دمت تجاهد بي فالله يزيدك مجاهدة ، فاحمل المسئولية وخذها بقوة . فقلت : الله المستعان .

الخاطرة التاسعة والعشرون:

ظننت يوما أني سوف أستطيع أن أُحْرج قلمي وأجد له سلبية ـ من باب مشاكسة الأحبة كعادتنا دائما ـ فقلت له : سوف أضربك اليوم في مقتل ! قال : هات ما عندك. فقلت : لقد أكثرتَ من مدح نفسك وذِكر مآثرك ، وأنا مقِرّ بها ، ولكن ماذا عن الشعراء والكُتّاب الذين استخدموك أداة في نفاقهم وفسقهم ؛ فقد تغزل بك عمر بن أبي ربيعة ووصف النساء بما يُحْرج أهل العفاف ، ومدح بك النابغة الذبياني الملوك ، وتملق بك المتنبي الأمراء ، وبك أشبع أبو نواس الخمر وصفا ، وكنت سيفا مسلطا للهجاء عند بشار بن بُرْد ، ثم دعك من هذا كله يكفيك ذما أن الله قال “والشعراء يتبعهم الغاوون” وأنت أداة الشعراء .

فتبسم القلم تبسُّم المغضَب ، وشمر عن ساعديه ، واعتدل في جِلسته كأنه ينذر بهجوم ، وقال : أهذا كل ما عندك يا عزيزي ؟ أهذا هو المقتل الذي تصيبني فيه ؟ قلت : نعم ، أجبني ولا تتملص ! قال : ماذا لو كان ابن أبي ربيعة متغزلا في زوجته ، أو يتغزل كاتبا دون أن يتعرض لامرأة لا تحل له ؟ ماذا لو كان النابغة صادقا في شعره وأبو الطيب غير متملق ؟ ماذا لو كانت الخمر حلالا ؟ ماذا لو هجا بشار من يستحقون الهجاء من ذوي الظلم والفجور ؟ قلت : لكان شعرهم ممدوحا وعملهم منقبة . قال : إذن هذا يتعلق بنيتهم وهم يحاسبون عليها ، ولا شأن للقلم بما ينتوون ، يبقى عليهم إثمهم ويبقى لي فضل التعبير وجمال التصوير وروعة البيان ، أما الآية فهي دليل لي لا علي ! قلت : كيف ؟ قال : لقد ذمت الشعراء لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، أما فن القول فيبقى فنا ، فلم تذم الآية القول والشعر ، ولو أنهم قالوا ما يفعلونه ، وكتبوا ما يعتقدونه من الحق لكانوا ممدوحين لا مذمومين ، أليس كذلك يا عزيزي ؟ قلت : بلى ! قال : هل لك من حجة أخرى ؟ قلت : لا . قال : انصرف راشدا ، ولا تحاول ذم من أقسم الله به في كتابه . قلت : انتهيت انتهيت!

الخاطرة الثلاثون:

قلت لقلمي : ما أجمل الحوار معك ! نختلف كثيرا ولكننا لا نتصارع ! وربما أسمعتني ما يوجعني وأسمعتك ما يؤلمك ، ولكن ننتهي دائما من حوارنا متحابين ! لقد تعلمت أدب الحوار منك . قل لي يا قلمي : لماذا يؤدي الحوار بالناس إلى الشقاق والنزاع ؟ قال : أنا أخبرك يا صديقي بقول ربما لم تسمعه من أحد قبلي ! قلت : قل ، فدائما تسمعني ما لم أتعود سماعه ، ونعْم الصديق من وجدتَ عنده من الخير ما لم تجده عند غيره ! قال : الناس تتحاور لمقصد واحد ، يتحاورون للاتفاق ، فكل يريد من غيره أن يوافقه ، فإذا لم يستطيعوا أن يحققوا مرادهم تنازعوا عصبية وحمية لرأيهم . قلت : سبحان الله ! وهل نتحاور إلا من أجل هذا يا صديقي ؟ من أجل أن نتفق ! قال : هذا هو الخطأ الذي شق عصا المتحاورين ! ظنوا أن الحوار للاتفاق فحسْب وليس لأغراض أخرى . قلت : اذكر لي أغراضا أخرى للحوار . قال : يا صديقي: نحن نتحاور لنتبادل المعلومات ، نتحاور لمعرفة ما في القلوب ، نتحاور للتعبير عن الرأي وإظهار ما نعتقده من الحق ، حتى وإن تحاورنا بغرض الاتفاق فليس لزاما أن يكون اتفاقا على ما نريده نحن ، فقد أتفق مع من يحاورني على رأيه هو وأتنازل عن وجهة نظري ، أو نتفق نحن الاثنين على شيء آخر غير ما يريده هو وما أريده أنا ، مثل أن نصل إلى حل وسط . قلت : نعم صدقت ! قد أرهق الناس أنفسهم حين يتحاورون من أن أجل أن يقنعوا غيرهم بوجهة نظرهم فحسب .

الخاطرة الواحدة والثلاثون:

رآني قلمي مهموما فقال لي : ما لك يا عزيزي؟! قلت : أأنا عزيزك حقا ؟! قال : نعم وهل تشك في هذا ؟! قلت : لم جعلتني عزيزك ؟ قال : كل من نشر بي حكمة أو كشف بي مكنونات نفسه أو وجد لذة في خلوته معي فهو عزيزي . قلت : هذا حظك من الناس ، فما حظهم منك ؟ قال : أكون عزيزهم كما كانوا أعزتي ، وأزيدهم على هذا بألا أخذلهم في موطن احتاجوني فيه ليكتبوا ما أرادوا ، وأن أرفع ذكرهم وقدرهم . قلت : أيحدث هذا حقا ؟! قال : نعم ، ولكنكم تستعجلون ! قلت : دون ذلك تجرع النفوس مرارة الألم ، ومعالجة الأشواك والأشواق ، وأن تبكي العيون دما !! قال : لا أكْذِبك ، لقد صدقتَ ! ولكن اعلم أن بعد ذلك راحة الضمير ، وفرحة التمكين ، اصبر اصبر يا عزيزي! فما أعطي أحد عطاء خيرا من الصبر ، وسر واعمل في ظلمات الليل ولا تستوحش ، وعند الصباح يَحْمد القومُ السُّرَى .

(السرى : المسير ليلا)

الخاطرة الثانية والثلاثون:

قلت لقلمي في يوم اعتدل فيه مزاجي : لماذا لا نخرج معا نتنزه كما يتنزه الآخرون ؟ هل كُتب علينا نحن الاثنين أن نكون محبوسين بين الجدران ؟! هيا يا صديقي نرتع ونلعب ونلهو كما يلهو الصبيان ، فما الكبار إلا أطفال بأجسام كبيرة ! هيا نأخذ من هزلنا لجدنا ، ومن مرحنا لجهدنا ، فالأيام ساعة وساعة ، وفي كل منهما عون على الأخرى ! فابتسم كعادته ! فقلت له : تبسمك يُقلقني ، فما تبسمتَ يوما من كلامي إلا وجدت وراء تبسمك أشياء وأشياء! فقال : جدراننا أفضل لنا يا صديقي ! قلت : لا ، في هذه المرة الصواب ما أقول ! هيا فلا تضيق واسعا ، ولا تعسر يسيرا ، فلنعش كما يعيش الآخرون ! فقال : هيا نجرب لترى الحقيقة واقعا ، والواقع خير دليل على معرفة الحقائق . فانطلقنا معا ، وركبنا ونزلنا معا ، واستمعنا إلى أحاديث الناس معا ، ورأينا في طرقات مدينتنا ما رأيناه معا ، فلما انتهت رحلتنا سألني قلمي : أخبرني ماذا وجدت ؟ قلت : ما يُدمي القلبَ ويُحزن النفسَ ويُشيب الرأس ! وجدت أناسا ينطلقون لغير وجهة ولا هدف ، ورأيت سفسطة في الكلام لا مبرر لها إلا مضيعة الأوقات ، ووجدت أشكالا وظواهر تنبئك عن بواطن أصحابها ، فأفئدتهم هواء ، وعقولهم خواء ، ألهؤلاء نكتب يا صديقي ؟! نحن نضيع أوقاتنا إذن ! قال : لا يا صديقي ، لن يضيع عملنا سُدَى ، ولهؤلاء نكتب حتى تُزكَّى قلوبهم ، وتُنمَّى عقولهم ، لا تقلق يا صديقي فالمستقبل قادم بالخير إن شاء الله . قلت : ليتني ما خرجتُ ! قال : الحمد لله أن خرجنا ! قلت : ويحك ! كنت تنكرعليّ الخروج والآن تؤيده ! قال : نعم ، أنكرت عليك قبل الخروج لعلمي بمفاسده ، والآن أمدحه لأنه أوقفنا على ما يحتاجه الناس منا ! قلت : الطريق طويل يا عزيزي ! وما زال يحتاج إلى عمل دءوب وسعي حثيث ! قال : ونحن لها إن شاء الله ، فطريقنا طريق الأنبياء والمرسلين ، طريق الدعاة والمصلحين ، طريق الذين قضوا فيه نحبهم من الشهداء والصديقين ، ألا يكفيك أن تكون في طريق هؤلاء ولو كان طويلا مليئا بالأشواك! قلت : بلى يكفيني ويكفيني!

الخاطرة الثالثة والثلاثون:

قلت لقلمي : هذا آخر العهد بيننا ، فوداعا يا صديقي ! قال : عن أي وداع تتحدث ؟ قلت : سأودعك بهذه الخاطرة من (حوار مع قلمي)! قال : يا صديقي ليس وداعا ! قلت : كيف : قال : ليس هذا آخر العهد بيننا ما دمت تكتب بي ، أيا ما كان الذي تكتبه ، ألست تكتب بي خواطر أخرى ؟ قلت : بلى . قال : إذن ليس وداعا ! قلت : ولكنه وداع لهذه السلسلة . قال : وليكن ، فليس العهد بيننا حوار هنا وسلسلة هناك . قلت : صدقت ، فبم تنصحني في ختام هذا الحوار ؟ قال : دوِّن أفكارك دائما وإن لم تكتمل ، فالفكرة كالطفل تولد ثم تكبر وتنمو حتى تكتمل ، فإن لم تدونها ماتت في مهدها . ولا تستهن بأي فكرة ؛ فربما لا يكون هذا يومها ، ويكون وقتها الغد . واجعل العقل والقلم قرينين لك ، فقلمك في يدك ما دمت تفكر ، سجل ثم سجل ، وحين تكتمل فكرتك أخرجها للناس ، ولا تكتمها فتموت بموتك ، فرب فكرة أحيتْ أمة! قلت : نعم نصحت فصدقت ، وأرشدت فهَديت . قال : والآن أخبرني وأخبر قراءك بالخواطر الجديدة . قلت : خواطر (أتدري لماذا؟) قال : موفق بإذن الله . قلت : آمين.

 

 

 

 

شارك المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on tumblr
Share on pinterest

شارك

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on tumblr
Share on pinterest

مقالات ذات صلة

لهم في الدنيا خزي

استوقني قوله تعالى (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فقلت : خزي وخذلان في الدنيا ، وعذاب عظيم في

اقرأ المزيد »

لهم في الدنيا خزي

استوقني قوله تعالى (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فقلت : خزي وخذلان في الدنيا ، وعذاب عظيم في

اقرأ المزيد »

“تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”

لماذا تكررت الآيتان (134 و 141) من سورة البقرة: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا

اقرأ المزيد »

نموذج العمل الجماعي

من النماذج القرآنية التي تمثل وحدة متكاملة عن العمل الجماعي ـ ما ذكره الله تعالى في سورة النمل عن سيدنا سليمان عليه

اقرأ المزيد »