استوقني قوله تعالى (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فقلت : خزي وخذلان في الدنيا ، وعذاب عظيم في الآخرة ، قد خسروا الدنيا والآخرة ، فما فعل هؤلاء حتى يستحقوا العذاب في الدارين ، فاستدعاني ذلك إلى أن أتتبع كل الآيات في القرآن التي فيها الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فوجدت أنها وردت في خمس آيات ، آيتان في قوم ، وثلاث آيات في ثلاثة أقوام ، ووصفهم كما يلي :
1ـ قوم من أهل الكتاب ـ ومن حذا حذوهم من المسلمين ـ فرقوا دينهم ، فأخذوا منه ما يشتهون ، ونبذوا ما لا يتفق مع هواهم ، فقد يصلون ولكنهم يظلمون الناس ، وقد يصلون على النبي صى الله عليه وسلم إذا ما ذكر اسمه أمامهم ، ولكنهم لا يعبئون بقوله صلى الله عليه وسلم ” دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) هذا في هرة ـ فما بالنا بحكمه فيمن ظلم إنسانا ـ وقد يحجون ويصومون ويقيمون مراسم الفرحة بشهر رمضان المبارك ، ولكنهم في نفس الوقت يرتشون ويرابون ويأكلون أموال الناس بالباطل ، وفي مثل هؤلاء ورد قوله تعالى ” ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86) البقرة .
وقوله تعالى “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) المائدة .
فتأمل قوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ)
وفي الآية الأخرى (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) لتعلم جزاء من يفرق الدين فيأخذ بعضه ويعرض عن بعض .
2ـ قوم راقبوا المساجد وأحكموا السيطرة عليها وقيدوا مواعيد فتحها وإغلاقها ، فأخافوا الناس أن يعكفوا فيها بعد الصلوات يتلون القرآن ويذكرون اسم الرحمن ، وفي هؤلاء يقول ربنا ” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) البقرة .
3ـ قوم استكبروا ، إذا قيل لأحدهم اتق الله أخذته العزة بالإثم ولوى عنقه استكبارا (ثاني عطفه) وجادلك بالباطل ليثبت أنه صاحب الحق وأنه يريد الخير للعباد والبلاد ، ويتكلم بالدين رغم أنه أجهل الخلق ، لا فقه له ولا أثارة من علم ، وفيهم يقول ربنا ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) الحج .
4ـ قوم أفسدوا في الأرض ، ووقفوا للناس في طرقاتهم يفتشونهم وينهبون أموالهم ، ومن اعترض ربما قتلوه أو سحلوه إلى حيث لا يعلم أهله ، وهؤلاء يسمون بالمحاربين وحدُّهم هو حد الحرابة المذكور في قوله تعالى ” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) المائدة .
هذه كل الآيات التي ورد فيها الوعيد بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
ولنا وقفات ثلاث معها
الوقفة الأولى : هل يمكن أن يكون هناك رابط بين هذه الآيات كلها ؟ لماذا اشترك كل هؤلاء في نفس الوعيد ( الخزي والعذاب) ؟
تدبرت في ذلك فوجدت أن الرابط بين هؤلاء جميعا ، أنهم أفسدوا على الناس دينهم أو دنياهم ، فرجال الدين الذين أخذوا بعضه وتركوا بعضه ، فيحدثون الناس عن أشياء ـ وهي من الدين حقا ـ ولكنهم لا يتحدثون عن أشياء أخرى ، وكأنها لا تمت للدين بصلة ، كل ذلك إرضاء للهوى أو تفضيلا للسلامة ، وهذا لا شك أنه علمانية دينية ، حين نحصر الدين في مجموعة من الشعائر ، نابذين وراء ظهورنا أحكاما وقضايا كبرى هي من الدين بمكان ، فلا ننتقد الواقع الأليم ، ولا نتحدث عن الظلم والظالمين والفساد الذي استشرى ، وخراب الذمم والرشوة التي انتشرت في كل مكان ، فلا يكاد يقضي المواطن مصلحته إلا بدفع الرشوة ، والربا الذي أصاب الجميع ، فمن لم يأكله متعمدا أصابه دخنه ، أليس الحديث عن كل هذا من الدين ؟!
وبجانب هؤلاء الدعاة ورجال الدين الذين أفسدوا على الناس دينهم هناك قوم أفسدوا على الناس دنياهم ، وهم البلطجية وقطاع الطرق ـ أيا ما كانت تسميتهم أو زيهم أو منازلهم ، المهم أن الناس إذا رأوهم في الطريق لم يأمنوا على أنفسهم وعلى أموالهم ـ فهؤلاء قد أفسدوا على الناس معاشهم واستقرار مجتمعاتهم .
وكأن الله تعالى يقول لنا : من أفسد الدين أو الدنيا فقد باء بالخزي والمهانة والخذلان في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة .
ثم تأتي هذه الآية ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) لتبين أن نفس الوعيد لمن يجادل بالباطل ويستكبر عن النصيحة ، وكان الآية تشير إلى أنهم يفسدون دين الناس ودنياهم ، ولا يقبلون أي نصيحة استكبارا واستعلاء .
فالآيات كلها إذن تجمع بين من يفسد الدين أو معاش الناس ، ثم يستعلي ويستكبر ويجادل بالباطل .
الوقفة الثانية : لماذا الخزي على وجه التحديد الذي توعدهم الله به في الدنيا ؟
الناظر في هذه الأصناف المعاقَبة بالخزي في الدنيا ـ يجد أنها يجمعها جامع القوة والسلطة ، فرجال الدين الذين يفرقون الدين والأحكام لهم على الناس من السلطة الدينية والروحانية ما يجعل الناس يتبعونهم ، وكذلك لا يملك أحد أن يمنع المساجد أن يُذكر فيها اسم الله إلا إذا كان ذا سلطة وقوة ، والذين يجادلون بالباطل ويستكبرون في الأرض عادة يكونون ممن أعمتهم السلطة عن سماع الحق ، وأغراهم الترف والمال عن الاعتراف بالخطأ الذي هم عليه ، وأخيرا يأتي صنف المحاربين قطاع الطرق الذين امتلكوا من القوة وأدوات السطو والتسليح الذي يرهبون به الناس ويسعون في الأرض فسادا .
ولأن هؤلاء جميعا قد امتلكوا من أسباب القوة والسلطة ما جعلهم يتعالون في الأرض ـ قد أخزاهم الله وضربهم بالهوان عقوبة لهم على تعاليهم ، وتنكيلا بهم من جنس ما تعالوا به على الناس ، فقد يحسبهم الناظر إليهم ظاهريا أنهم أهل قوة وبطش ، ولكنهم في الحقيقة ضعاف النفوس ، قد يأتيهم الخزي والشعور بالمذلة من حيث لا يحتسبون ، قد كتب الله عليهم الصغار والهوان فيما بينهم وبين أنفسهم ، أو فيما بينهم وبين زوجاتهم وأولادهم ، أو فيما بينهم وبين رؤسائهم في البطش والفساد ، يُفعل بهم ما يفعلونه بالناس ، ويُبطش بهم كما يبطشون بالناس ، تحسب الواحد منهم ـ وهو منتفخ بقوته منتفش بباطله ـ قسْورة ، وفي الحقيقة ما هو إلا هِرّ يحْكي صولة الأسد ، قد يخزيه الله في عرضه وزوجته ولا يملك أن يتكلم ببنت شفه إيثارا لعدم الفضيحة ، أو يفضحه بخذلانه في بعض أولاده .
كل ذلك لما فعلوه في الناس ، لأنهم خذلوا حق العباد فخذلهم الله في أنفسهم ، وكتب عليهم الخزي والعار ، ولكن الله حيي ستير ، ولولا ستر الله على هؤلاء لأرانا من خزيهم ما نعجب به من صدق الآيات وتحقق وعيد الله فيهم ، ولكنه يكشف لنا بعض الحالات حتى يرى الناس مصداق الوعيد الإلهي فيهم .
الوقفة الثالثة : وردت الآيات الخمس في سور بعينها ، آيتان في البقرة ، وآيتان في المائدة ، وآية في الحج .
وهذا ـ عند التدبر ـ له مغزاه وهدفه ، فسورة البقرة هي سورة الاستخلاف في الأرض وبناء المجتمع ، فحين يأتي فيها ذكر الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ممن أفسدوا على الناس دينهم ، ثم منعوا الناس أن يمارسوا دينهم في مساجدهم (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه … ) حين يأتي ذكر هذين الصنفين في سورة البقرة فهذا يعني أن المجتمع المسلم الذي تبنيه سورة البقرة لا يمكن أن يستقر وتقوم دعائم بنائه وفي الأمة هذان الصنفان ، كما يعني أن أشد معاول الهدم لمعنى الاستخلاف في الأرض هو أن تلبّس على الناس دينهم وتفرق بين أحكامه ، وأن تمنع المساجد أن تقوم بدورها في بناء الأمة الإسلامية .
وسورة المائدة هي سورة العقود والميثاق مع الله تعالى الذي أمر الله بالوفاء به ، واليهود بما فعلوه قد نقضوا ميثاقهم مع الله ، حين فرقوا بين الأحكام أيضا (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) وكذلك كل من أخاف الطريق وأفسد أمن الناس فقد نقض ميثاقه مع ربه ونقض العروة التي عقدها مع الله تعالى .
أما الموضع الذي ورد في سورة الحج ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) فعلاقتها بالسورة أنها تتحدث عن المستكبرين المجادلين بالباطل ، والحج يعالج هذين الأمرين ، يعالج الجدال (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) كما أنه يعلّم التواضع والالتزام بأحكام الله وعدم الاستعلاء عليه بما يشتمل عليه من مناسك فيها تعب وتواضع في الملبس والهيئة ، فمناسك الحج تعلم الخضوع لأمر الله ، فالحاج بين طواف حول البيت سبعة أشواط ، وسعي بين الصفا والمروة سبعا أيضا ، ولا يدري الحجيج لماذا السبع ؟ لماذا لم يكن الطواف ثلاثا أو خمسا ؟ كلها أحكام تعبدية تعلم الركون والخضوع لأوامر الله دون تفلسف أو جدال بالباطل .
كما أن هيئة الإحرام وتخلي الحاج عن مظاهر الزينة والتعطر ، وما يصيب الحجيج من أوساخ العرق والتراب من طول التنقل بين المناسك ـ كل ذلك يكسر النفس الإنسانية ويعلمها الإذعان لأمر الله (ثم ليقضوا تفثهم) أي وسخهم .
ما أعجب القرآن ! وما أعظم آياته ! عند التدبر والبحث في العلاقات بين الآيات والربط بينها لا يسع المتدبر إلا أن يقول بحق وبقلبه “تنزيل من حكيم حميد” .