خواطر (حوار مع قلمي) يكتبها الدكتور/ بلال محمود طلب
الخاطرة الأولى:
لما رأيت كلام الناس لا يجدي استنطقت قلمي فقال : مرحبا ! طال البعد ! فلِمَ كل هذا المغيب ؟ قلت : رجوت خيرا من كلام الناس . فقال : ويحك ! ماذا كنت ترجو منهم ؟ وهم إنما يعبرون عن أنفسهم ، أما أنا فأعبر عما في نفسك ، فكيف تتركني إلى غيري ؟! قلت : صدقت . قال : قد عرفت فالزمني ولا تكرر الخطأ فتشقى !
الخاطرة الثانية:
شكوت إلى قلمي همي فقال لي : أمسك بي واكتب ما يجول بخاطرك ، فكل من كتبوا بي وهم في مثل همك كتبوا دررا ومشاعر تتجاوز حدود الزمان والمكان . قلت : ثم ماذا بعدما أكتب بك كل هذا ؟ قال : أن يتمنى الناس من بعدك أن يكونوا في مثل همك ليكتبوا بي ما كتبت .
الخاطرة الثالثة:
جلست أحادث قلمي يوما فقلت له : الآن عرفت مكانتك حين رأيت العلماء والكُتّاب ما ارتقوا إلا بك . فقال لي : ما صنعت لي شيئا بهذا الكلام ؟ قلت : كيف ؟ قال دعك من مكانتي فهذا أمر قد أُبرم في السماوات العلا حين أقسم الله بي (ن والقلم وما يسطرون ) فلا أحتاج إلى مدحك . انشغل بما هو أفضل . قلت : وما هو ؟ قال: أن تصنع لنفسك بي مكانة وذكرا .
الخاطرة الرابعة:
قلت لقلمي : ما أنت إلا عود من خشب أو غيره له سن يخط به من يكتب بك ! قال : لا تنظر إلى صغر حجمي ، ولكن انظر إلى حجم ما يكتب بي ، هل تعرف تاريخا حُفظ أو حضارة قامت أو مجدا شُيّد إلا بما كتب بي ؟! قلت إذن لا قيمة لك إلا بما كتبت ! قال : ولا قيمة لك أنت أيضا أيها الإنسان إلا بما كتبت وعملت ، ويبقى لي الفضل عليك في أني لا أحاسَب على شر كتبتَه بي ، بل تحاسب أنت .
الخاطرة الخامسة:
قلت لقلمي : كيف السبيل إلى أن يحسن الإنسان بك الكتابة وأن يحظى بك مكانة ؟ قال : كالسبيل إلى أي شيء يتمناه الإنسان . قلت : كيف ؟ قال : بداية الإتقان أن يفعل الإنسان الشيء بلا إتقان ، ولا يزال يفعله حتى يتعوده ، ولا يزال مستمرا عليه حتى يتقنه . قلت : إذن يطول الأمر والعمر قصير ! فضحك القلم وقال : من كتبوا بي طالت أعمارهم بعد موتهم ، وكان ما كتبوه أطول عمرا منهم .
الخاطرة السادسة:
جلست يوما مهموما فإذا بقلمي يسالني : ما أهمك ؟ قلت فعال الناس يشيب الناصيات ! فقال : وأيضا فعالك بالنسبة لهم يجعل الولدان شيبا ! قلت : كيف ؟ قال: هم أيضا يستنكرون عليك كما تستنكر عليهم ، ويشقون بك كما تشقى بهم ، ويزهدون فيك كما تزهد فيهم ، ويرونك كما تراهم ! فلم العجب ؟ قلت : ما الحَكَم بيني وبينهم إذن ؟ قال القلم : قد سطر الله بي قوله “إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون” فدع عنك هذا كله وانشغل بما ينفعك ، واكتب بي ما يجول بخاطرك .
الخاطرة السابعة:
جلست يوما منصرفا عن قلمي أجول بخاطري بلا قلم ، فناداني من بعيد : ما بك ؟ ولمَ تفكر وحدك ؟ وأين أنا منك ؟ ألم نتعاهد ألا نفترق ؟ قلت : دعني وشأني ؛ فقد كتبتُ بك الكثير مما أحس به وما أغنيتَ عني شيئا ؟ فقال : أخطأت ! كم من حكمة نشرتَها قد كتبتها بي ! وكم من مشاعر قرأها غيرك فتعزوا بها ! وكم من نصيحة بثثتَها فانتفع بها قارئها ! كل هذا وتقول ما أغنيتُ عنك شيئا ! قلت : هم استفادوا مما كتبت ، فأين أنا فما زال خاطري يتعبني ؟! فقال : لا أراح الله خاطرك ! قلت له: أتدعو عليّ ؟!! أهذا ما أناله منك ؟!! قال : بل أدعو لك . قلت : كيف ؟ قال : قد أجبتك .
الخاطرة الثامنة:
قلت لقلمي : لماذا أقسم الله بالقلم ؟ قال : لأمور كثيرة وعظائم جليلة يطول ذكرها ! قلت : اذكر لي أهمها . قال : أهمها ثلاثة أمور : قد سُطر بي القرآن في السماوات وفي الأرض ، وإذا كُتِب بي الحق حُفظ وانتشر ، وإذا رددت على الباطل زهق واندثر .
الخاطرة التاسعة:
قلت لقلمي : أنت النديم الذي لا يخون ، وأنت الصديق الذي لا يكذب ، وأنت المعين الذي لا يخذل ، وأنت الناصح الذي لا يقصر . فقال : نعم ، ولكن احذرني في ثلاثة مواطن ، لا تجدني إلا العدو الذي لا يرحم . قلت : اللهم غوثا ! أخبرني بها فما عرفتك إلا وفيا . قال : احذر أن تكتب بي باطلا فأقلب السحر على الساحر ، واحذر أن تنافق بي فأفضحك على الملأ ، واحذر أن تهاجم بي بريئا فأكون عقوبة ووبالا عليك . قلت : ولكن كيف تنتقم في هذه المواطن ؟ قال : أكون أداة لأهل الحق عليك ليكتبوا ما يكشف باطلك .
الخاطرة العاشرة:
سألت قلمي مرة : ما أحسن شيء تكتبه ؟ فقال : هو أحسن شيء تقوله . قلت : لا أفهم ؛ أجبني بتوضيح أكثر ؟ قال : ولا أجيبك حتى تعرف أن هناك شيئا تحسنه ولكنك غافل عنه ، ففتش في نفسك تجد الكثير مما تكتبه . قلت : إذن قل لي ماذا أحسن حتى تكتبه . قال : إن لم تعرف ماذا تحسن فغيرك أقل منك معرفة بنفسك ! قلت : فهمت ، فأعطني علامة أعرف بها ما أحسنه . قال : جرب واكتب فإن وجدتني أنساب معك في الكتابة فهذا دليل على ما تحسنه . قلت : أحسنت صنعا حين أرشدتني ! قال : وأحسنت صنعا حين سألتني !
الخاطرة الحادية عشرة:
أمسكت بقلمي لأكتب فتعثرتُ في الكتابة ؛ أذكر المبتدأ ولا أجد له خبرا ، وأذكر الموصوف وأحتار في الصفة ، وأذكر الفعل وأعجز عن الفاعل ، فقال القلم : ما بالك هذه المرة ؟ أين طلاقة كلماتك ؟ قلت : لا أدري ! صرت حائرا في الكلمات التي تعبر ، والجمل التي تفصح عما بداخلي ! فقال : أوَصلتَ إلى هذه الحال ؟! قلت : نعم وصلت ! فقال : أبشر . قلت : بم تبشرني ؟ قال : ما وصل أحد إلى ما وصلت إليه إلا كان عقله الحائر ينبوعا لأحسن الأفكار ، وكان قلبه المتأجج بالمشاعر وقودا لأرق العبارات ، فلا تترك الكتابة وإن تعثرْتَ ، ولا تهجر القلم وإن تلعثمْتَ . قلت : فمتى تُفكّ عثرتي ؟ فضحك وقال : قد فُكّت وكتبتَ خاطرة اليوم .
الخاطرة الثانية عشرة:
هاجمت قلمي فقلت له : أنت نهايتك ومقامك كتاب يخرج للناس ، ولن يقرأه أغلبهم ، وما أكثر الكتب في الأسواق وعلى أرصفة الطرقات ! فلا تدَّعِ لنفسك فضلا أكثر من هذا ! هنا قهقه القلم حتى دمعت عيناه ، وقال : اسكت يا عزيزي ! لا تقل هذا لأحد غيري حتى لا تُتّهم ، ولولا ما بيني وبينك من عهد قديم لا أخونه لاتّهمتك أنا أيضا ! قلت : ألهذه الدرجة ترى كلامي باطلا ؟! قال : وأراه لا قيمة له !! قلت : مهلا مهلا ، لم كل هذا ؟! قال : يا عزيزي ، تقلل من قيمة الكتاب !! وهل الحق إلا كتاب نزل من السماء ؟! وهل دعوة كل الأنبياء والرسل إلا كتب ورسائل من الله ؟! وهل المجد والحضارة إلا كتاب ؟ وهل الصديق الوفي إلا كتاب ؟ وأنتم تسمون أهم عقد لكم في الحياة الزواج (كَتْب الكتاب ) فماذا بقي في الحياة بعد الكتاب ؟! هات لي شيئا له قيمة في الحياة وأنا أخبرك بقيمة الكتاب فيه ، اسكت أفضل لك ولا تعد لمثلها . هنا طأطأت رأسي واستحييت من نفسي ، وقلت : ويل لمن يقول كلاما دون أن يتأمل فيه قبل أن يقوله .
الخاطرة الثالثة عشرة:
رآني قلمي مهموما فقال : ما لي أراك على هذه الحال ؟ قلت : اتركني ! قال : لا أتركك حتى تخبرني فلست بالصديق الذي يترك حبيبه وقت اغتمامه ولو قال له اتركني . قلت : ما عاد الزمان زمانك ولا الناس ناسك ! قال : كيف ؟ قلت : نافق القوم وفسد الذوق وما عادت كلماتك تروق لمثل هذا الزمان ، وما عاد الشعر الذي سطرته يصلح للفهم واستثارة المشاعر ، فليس هذا عصر الكتابة والأقلام إنما هو عصر الخرافات والهذيان . فقال : يا عزيزي هدِّئْ من روعك ، واسمع مقالتي . قلت : قل أسمعْ . قال : كيف كان حال الناس حين ابتعث الله رسله ؟ وكيف كان حال العرب حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : في أسوأ حال . قال : ولو كانوا على خير وصلاح فلماذا تكون بعثة الرسل إذن ؟! ولو كانت المجتمعات صالحة لما احتاجوا إلى المصلحين ! وحاجة الناس إلى ما تكتب في فسادهم أكثر من حاجتهم إليه وقت صلاحهم ، اكتب يا صديقي فما ذكرته من فساد الحال أدعَى لأن تكتب وتكتب حتى يُصلح الله بما تكتب ، اكتب ليتعلم الناس ذوق الكلمة بما تكتب ، اكتب لتنشر فضيلة أو علما ، اكتب لتحارب رذيلة أو جهلا ، اكتب فهذا زمن الكتابة والإصلاح .
الخاطرة الرابعة عشرة:
سألت قلمي يوما : لقد أتعبتني واحترت في أمرك ، تصنع الفكر ولا عقل لك ، وتبني الحضارات ولم تشمر عن ساعديك يوما ، وتشيد المجد وأنت العود الصغير ! فتبسم القلم وقال: أعن حسد أم تعجب ؟ قلت : بل أعجب ! قال : أنا أريحك وأضبط لك المسألة . قلت : هات ما عندك ! قال : الجواهر الثمينة تزين النساء وتصنع الثروات للرجال وتحفظ في الخزائن لقيمتها رغم أنها لا عقل لها ولا ساعدين وحجمها صغير مثلي ، أليس كذلك ؟ قلت : بلى ! قال : كذلك أنا جوهرة وكنز لصاحبه ، وزينة للكُتّاب يُنسبون إلي ويلقبون بي ، وفوق كل هذا وصلتْ قيمتي إلى أن يضعوني في جيب القميص الذي فوق القلب . قلت : صدقت . قال : الآن فهمت وارتحت ؟ قلت : أراح الله سنك .
الخاطرة الخامسة عشرة:
غازلت قلمي فقلت له : أحبك وأحب من يحبك ، وأولع قلبي بحبك ، وهامت نفسي في حبك . فقال : مهلا مهلا ! أهذا عشق وهيام ؟ قلت : بل أكثر ! قال : أجعلتَ ما بيني وبينك كما بين العاشقين ، لست امرأة تتغزل بها ، ولا أنثى تولع بجمالها ، ولا فتاة يعجبك دلالها ! قلت : أنت خير لي من هذا كله ! قال: كيف ؟ قلت : حبك يصلح القلوب وحب العاشقين يفسدها ، حبك يزيد بالقرب والاتصال وحب العاشقين يزيد بالبعد والحرمان ، حبك لا ينحل الجسد ولا يصيب بالحزن كما يصنع العشق بالعاشقين ، فلماذا لا أحبك أفضل من حب العاشقين ؟ قال : أصبت كبد الحقيقة ونلت إعجابي هذه المرة . قلت : هذا يعني أني ما أعجبتك في المرات السابقة ! فابتسم وقال : أقصد أعجبتني أكثر هذه المرة . فضحكت وقلت : وجدتَ مخرجا ! فقال : ولا يُعدَم اللبيب مخرجا !
الخاطرة السادسة عشرة:
قلت لقلمي : عجبا لك ! لماذا لا تبدع إلا في أيدي المهمومين والحيارى المكلومين ؟! أبدع بك الشعراء في أوقات لوعتهم ، وتفنن بك المصلحون في وقت معاناتهم ومعاداة الناس لهم ، وترجم بك أهل الهمّ حزنهم في كلمات عابرة للزمان والمكان . فلِمَ كل هذا ؟ قال : يا صديقي أجيبك بصدق لعلك ترتاح ، كل هؤلاء يبدعون بي أكثر من غيرهم لسببين : فروا من الواقع الذي أحزنهم فلم يجدوا سواي ليعبروا عن أشجانهم ، ولو سعدوا بواقعهم لشغلتهم السعادة عني. قلت : نعم صدقت ، فما السبب الثاني ؟ قال : لوعة الحزن والألم تخرج من المرء أفضل ما عنده ، فهل تعرف أحدا يرفع يديه للدعاء لله يجيد في دعائه أكثر من المضطر المكلوم ؟ قلت : لا . قال: كذلك الأمر معي ، ما أمسك بي أحد وهو في مثل هذه الحال إلا كان كلامه معبرا ، وبثه صادقا ، وشعره رقيقا ، وكلماته مُصلحة .
الخاطرة السابعة عشرة:
قلت لقلمي : تُرى هل أنا ممن يحسنون الكتابة بك أم أني من هؤلاء الأدعياء السوقة الذين يروّجون الضبلالات بأقلامهم ، أو يكتبون التفاهات لأهل السفاهة ؟ فقال لي : وهل تحتاج إجابتي ؟ قلت : وإلا ما سألتك ! قال : لا يا صديقي أنت لا تحتاجني في هذا . قلت : كيف ؟ قال : لأنك أدرى بهذا مني ! قلت : سبحان الله ! كيف أعرفه وأسأل عنه ؟ قال : تعرفه من قُرّائك . قلت : أوضح لي أكثر . قال : أنت بمن يقرأ لك ، فانظر إلى حال من انصرف عنك فأنت على خلافه فيما تكتب ، وانظر إلى من يقرأ لك فأنت على سنته وطريقته . قلت : الآن عرفتُ . قال : إذن أخبرني الآن عن قرائك حتى أعرفك ! قلت : أتركهم لك يخبروك !
الخاطرة الثامنة عشرة:
تأخرت ذات ليلة على قلمي فاستبطأني ، ولكنه ظل في انتظاري ، فلما حضرتُ قال لي بلهفة: أين كنت يا عزيزي ؟ قلت : كنت أنوي ألا أجيء ولكني رجعت عن نيتي خشية قلقك علي ! قال : ولم نويت عدم المجيء ؟ قلت : ليس عندي ما أكتبه فلماذا المجيء ؟ قال : وهل لا تجيء إلا وفكرتك حاضرة ؟ قلت : هذا ما أعتقده ! قال : لا يا صديقي ، تعال وإن لم تكن فكرتك حاضرة ، وأمسك بي وابدأ أن تخط بي أول كلمة وستجد الكلمات تنساب على قرطاسك وانت لا تشعر . قلت : أوحقا ما تقول؟! قال : جرب الآن وانت ترى . فبدأت أكتب كما قال وأنا لا أدري ماذا أكتب ، ففتح الله بتلك الكلمات . فقلت له : صدقت . فقال : اسمع لي وأطع أهدك صراطا سويا.
الخاطرة التاسعة عشرة:
استيقظت ذات ليلة على صوت رخيم يقول لي : انهض فما نوم كل الليل بمستساغ ! ففتحت عيني فإذا القلم يجلس بجواري . فقلت : لم توقظني ؟ أما تركتني نائما لأرتاح ؟! فالنوم راحة الحيارى ، وسلوى الثكالى . فقال : هذا وقت السحَر ، وهو نعمة للحيارى ؛ فيه يهديهم ربهم من حيرتهم ، ورحمة للثكالى ؛ فيه يخفف الله عنهم آلامهم . قلت : نعم ،هذا كله مع الله ، فما شأنك أنت ؟ فابتسم وقال : ما أحلى الكتابة بعد ركعتين في غسق الدجى ! وما أعظم ما تسطره وقت صفاء القلب والذهن وقد استغفرت ربك فزال ما على قلبك من رانٍ ! فهنالك تأتي الكتابة على ما يرام . فقلت : إذن توقظني لمصلحتك أيضا ! فقال : يا عزيزي ، كلاهما لمصلحتك أنت ؛ تصلي من الليل فتُصلح ما بينك وبين ربك ، ثم تكتب بي فتُصلح ما بين الناس وربهم بما تسطره من خير . قلت : الآن فهمت ! فقال : والآن انهض !
الخاطرة العشرون:
قلت لقلمي : ما أعجبك أيها القلم ! قال : مم تتعجب ؟ قلت : يظل الهمّ نارا في داخلنا يحرق قلوبنا فإذا ما كتبناه بك انفرج ما في النفس ، وخف الحِمل عن القلب . قال : اتدري لمَ ؟ قلت : أخبرني . قال : لأن الصدر ضيق بالهم فإذا بثثته انطلق في فضاء فسيح ، والهم في الصدر همك وحدك فإذا كتبته فقد شاركت غيرك فيه فصار هم الجميع ، والقاعدة تقول : الخَطْبُ إذا عمّ خفّ . والهم في الصدر هواجس وظنون وأحاسيس قاتلة أما إذا كتبته صار فكرة بنّاءة وكلمات براقة تسعد صاحبها فيخفف عنه همه . قلت : أحسنت وأبدعت ! أجبتني بالقول الفصل ! دائما تنطق بالحق وتقول الصدق ! قال : وأنت دائما تستثيرني لأقوله ! قلت : لأستثيرنّك دائما ! قال : ولأصدقنّك أبدا !
الخاطرة الواحدة والعشرون:
قلت لقلمي معجبا به : قد طال عمر القلم ولم تَهْرَم ، أتقنتَ كل اللغات التي تكتب بها ولم تنسَ ! كتبت ملايين الكتب ولم تتوقف ! وبنيت الأمم وشيدت صروحها ولم تتعب ! كم من عرش للظلم قد أسقطتْه كلماتُك ! وكم من فساد عم وانتشر في الأرض قد أوقفته أفكارك ! فمن تكون؟! وأي إمكانات لديك ؟! قال : يا صديقي أنا المَعين الذي لا ينضب ، والمُعين الذي لا يَخذل ، والبحر الذي لا يُغرق ، والمِداد الذي لا ينفد ، والعقل الذي لا يعجز ! أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ، وأسمعتْ كلماتي من به صمم (على حد تعبير المتنبي) قلت : فماذا أبقيت لنا معاشرَ البشر ؟ فقال ضاحكا : أنا بكم وأنتم بي ، فباليد التي تمسك بي صنعت كل هذا ! قلت : هل تصنعه بنا أم نصنعه بك ؟ فمن الأصل ومن الفرع ؟ من المستخدِم ومن المستخدَم؟ قال : دعك من هذه الفلسفة والقسمة الضيزى ! المهم أن الإنسان والقلم يصنعان كل هذا . قلت: صدقت !
الخاطرة الثانية والعشرون:
سألت قلمي : لمَ الكتابة ؟ أما يكفي ما نقوله ؟ فالقول أسهل علينا وأيسر ! فتبسم ضاحكا من قولي ، وقال : “رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي” قلت : مم تتبسم ؟ ولماذا هذا الدعاء ؟ قال : شكرا لله على نعمته على القلم ! قلت : وما هذه النعمة ؟ قال : يا عزيزي أخبرك بفضل ما يكتب على ما يقال ! قلت : قل . قال : ما يقال هباء كثير وما يكتب كنز قليل ، ما يقال يذهب وما يكتب يبقى ، ما يقال يحسنه كل الناس وما يكتب لا يحسنه إلا صفوة الناس ، وفوق كل هذا ما يقال صناعة الثرثارين وما يكتب صناعة المفكرين ، فأين أنا وما سطرته ـوقدأقسم الله بنا ـ من اللسان وما يقوله ؟! وقد جُعل سببا لكبّ الناس على وجوههم في جهنم .
الخاطرة الثالثة والعشرون:
حاورت قلمي متعجبا منه فقلت له : أنت صغير وهذا كبير فِعالك ! هادئ وهذه صرخات كلماتك ! بسيط وهذه تعقيدات كتبك وفلسفات كُتّابك ! من يراك يظن أنك لا شيء ، وفي الحقيقة أنت كل شيء ! فلماذا أنت هكذا ، أخبرني عسى أن نكون مثلك ! فنحن ندّعي العلم والعظمة ولم نصل إلى ما وصلت ! فقال : أخبرك يا عزيزي ، لأنكم تنظرون إلى الشيء في مبتداه ، وأنا أعمل لمنتهاه ! أنتم تقيسون الأمور بالأشكال وأنا أقيسها بالأعمال ! أنتم تحقرون الشيء لشكله وأنا أحتقر الشيء لمضمونه ! أنتم تعملون في ضجيج وأنا أعمل في صمت فكنت أكثر نتاجا ، أنتم تعظمون الحكام ورءوس الأموال ، وأنا أعظّم الحِكَم ورءوس الأقوال . قلت : بهذا سُدتَ وحُزْتَ السؤدد والشرف . قال : وبهذا أيضا يحوزه من كنت له قرينا.
الخاطرة الرابعة والعشرون:
انتابني يوما شعور بالضيق من واقعنا ، فهممْت أن أكسر قلمي فقال : مهلا مهلا ! لماذا؟ اعلم قبل أن تكسرني أنك تكسر نفسك ، فأنا في أيادي الملايين غيرك ! فلماذا تكسر قلمك ولسان قلبك ؟ قلت : ما عدتَ تغني عني شيئا ! قال : ولم ؟ قلت : الناس لا يقرءون ، وإذا قرءوا لا يفهمون ! وإذا فهموا لا يعملون ! وإذا عملوا لا يخلصون ! وإذا أخلصوا كانوا شواذ ومجانين في نظر غيرهم ! فلماذا أكتب بك ؟! قال : يا عزيزي اسمعني ، ثم افعل بعد ذلك ما تشاء ! قلت : قل . قال : سيأتي اليوم الذي يقرءون فيه ويفهمون ويعملون ويخلصون ، بل سيأتي اليوم الذي يُعدّ فيه من لا يقرأ شاذا منبوذا ! قلت : من أين لك أنه سيأتي ؟ قال : قد أتى على أمم غيرنا فكيف لا يأتي علينا ونحن أمة القراءة والقلم وما يسطرون ! قلت : لكن الأمم الأخرى أدركوا ما لم ندركه ! قال : قد أدركنا ذلك قديما فسبقناهم وكنا سادة العالم علما وحضارة ، فلما نمنا سبقونا ، وهكذا الأيام دُوَل . قلت : متى نستعيد عزنا وندرك ما فاتنا ؟ قال : علْم ذلك عند ربي ولكنه آت لا محالة ، وكلما كتبتَ أنت وغيرك عجّلتم من وقت مجيئه . قلت : وإذا متنا قبل أن نرى ذلك اليوم ؟ قال: تكونون قد أديتم واجبكم وأعذرتم أنفسكم عند ربكم ، وغرستم ليجني مَن بعدكم ثمار غرسكم .
الخاطرة الخامسة والعشرون:
تغيبت عن قلمي أياما فلما عدت قال : أين كنت ؟ قلت : ألا تسلم أولا وتستقبلني كما يستقبل الصديق صديقه ! قال : تغيبك عن قلمك أهم في السؤال عنه من مراسم الاستقبال ، دع قبلات التلاقي وأحضانه لغيرنا ، وأخبرني أين كنت ؟ قلت : كنت مريضا فلم أكتب . قال : ومنذ متى والمرض يمنع صاحبه من الفكر والكتابة ؟! قلت: العقل السليم في الجسم السليم . قال : دع هذا الكلام يقال في الإذاعة المدرسية، فمثلك لا يقوله ! قلت : فماذا تقول أنت ؟ قال : العقل السليم والفكر الناضج لا يعتل باعتلال الجسد ، والمصلحون لا يوقفهم المرض عن مسيرتهم . قلت : كيف يستطيعون وهم مرضى ؟ قال : أنا لا أقول يسافرون أو يحاربون ، وإنما قلت : لا يتوقف فكرهم وقلمهم ! قلت : من أين لك هذا الرأي ؟ قال : يا صديقي ليس مجرد رأي ، إنه والله لحق ! قلت : أقم لي دليلا عليه ! قال : نبينا صلى الله عليه وسلم ما توقف عن دعوته وهو مريض مرض الوفاة ؛ فأوصى وأمر ونهى . وأبو بكر الصديق استخلف عمر وشاور فيه الناس وأخذ له البيعة وهو على فراش الموت . وعمر بن الخطاب لم تمنعه طعنة المجوسي أن يضع خطة محكمة لاختيار الخليفة من بعده . قلت : نعم صدقت في كل هذا . قال : إذن جرب واكتب بنات أفكارك وأنت مريض ، ولسوف تجد صحة كلامي . قلت : في المرض القادم إن شاء الله فقد عوفيتُ من هذا . قال : لا أراكه الله ثانية ! قلت : آمين .
الخاطرة السادسة والعشرون:
قلت لقلمي أخبرني بسر عنك لم تبُحْ به لأحد من قبل ! قال : أوتتحمل ما سأقوله لك ؟! قلت : نعم . قال : من كتب بي حقا ونشر بي صدقا ولم ينافق بي ولم يخادع احدا كنت سببا في أذاه في حياته ، ولكني بعد مماته أرفع ذكره وأجعله سيدا في الآخرين . قلت : ولم تجعل هذا سرا ؟ قال : حتى لا يصُدَّ الناس عني بسبب ما أحْدِثه لهم من أذى عاجل . قلت : ولم أخبرتني بهذا الأمر ؟ قال : أنت الذي طلبت ! قلت : طلبت سرا ، وما كنت أظن أنه هذا ! ليتك لم تخبرني ! أما وجدت سرا آخر لتخبرني به ! قال : يا عزيزي! ليس من شيم الرجال أهل القلم أن يجزعوا أو يتقهقروا ، فالطريق أمامهم طويل إلا أنه لا رجعة فيه ، فلا تخف من ضرر عاجل في نفع لاحق ، فالعبرة بالخواتيم ، والعاقبة للمتقين . قلت : ماذا لو صدني هذا الذي بحْتَ به عن الكتابة ؟! فأنا بشر يصيبني ما يصيبهم من الخوف والقلق ! قال : عليك بأمرين يثبِّتانِك على الحق . قلت : ما هما ؟ قال : تذكر أن الأقدار قد كتبت ورفعت الأقلام وجفت الصحف ، فلن يصيبك إلا ما قُدر لك . قلت : نعم صدقت ، فما الأمر الثاني ؟ قال : تكفيك هذه الآية ” إن معي ربي سيهدين ” .
الخاطرة السابعة والعشرون:
سألت قلمي : لطالما قارن الناس بينك وبين السيف ، فأنت أداة الفكر والكتب ، والسيف أداة الحرب والفتوح ، فأيكما أفضل ؟ أخبرني . قال : يا صديقي بالقلم تُبنى الحضارات وبالسيف يُقاوَم أعداء الحضارات ، فنحن ضرورتان لكل مكرمة ، ولازمان لكل دولة ، وقد جمع المتنبي بين أدوات الحرب وأدوات الكتابة يفاخر بهما، فقال ( والخيل والليل والبيداء تعرفني ،،، والسيف والرمح والقرطاس والقلم ) قلت : سلَّمتُ لك أن الجمع بينكما ضرورة ، وكلاكما يكمل صاحبه ، ولكن لا بد من أن أحدكما أفضل من الآخر ؟ فمن أفضل : أنت أم السيف ؟ ولا تهرب من سؤالي ، أم أنك لا تريد مفاضلة أنت فيها طرف فتخشى من عدم الإنصاف في الحكم . قال : لا شك أن المفاضلة أمر صعب ، ولكني سأحاول إقناعك . قلت : قل . قال : الأفضل منا حسب اليد التي تمسك بنا ، فالسيف أفضل لأهل السيف ، والقلم أفضل لأهل القلم ، والسيف له موضعه والقلم له مواضعه . قلت : لم جمعت مواضعك وأفردت موضع السيف ؟ قال : أليست هذه الحقيقة ؟ السبف للحرب وليست الحرب أصلا وهي نادرة ، أما القلم ففي كل وقت وحين . قلت : بهذا بان لي أيكما أفضل ! قال : الحمد لله أن فهمت دون أن أفصح . قلت : الحمد لله أن جعل تلميحك أبلغ من تصريحك .
الخاطرة الثامنة والعشرون:
قلت لقلمي : متى نفترق ؟ فقال : فاجأتني بسؤالك ! قلت : ليس من شأني المفاجآت ، وليس الحكيم بمن يفاجئ دون أن يمهِّد .، ولكن هكذا نطق لساني ، فاعذرني وأجبني : متى نفترق ؟ قال : ما نطق لسانك بهذا إلا لشيء وراءه في قلبك ! قلت : نعم . قال : وما في قلبك أخبرني ؟ قلت : أجبني عن سؤالي أولا ! قال : ستأتي إجابتي حسب إجابتك فهي فرع عن أصل ! قلت : في قلبي هم واستشعار بمسئوليتك ، وصرتُ أعتقد أن الكتابة فرض فزادني هذا غما بغم ، وصرتُ متعلقا بك فحملتُ همَّ فَقْدك ، فاتركني الآن قبل أن تصير لي إدمانا ! فأجبني الآن : متى نفترق ؟ فقال : الآن عرفتُ أننا لن نفترق إن شاء الله . قلت : كيف ؟ لقد زدتني هما بإجابتك هذه ! قال : يا عزيزي من تعلق بشيء لا يفارقه ما دام في يده ، وأنا على عهد مع الله ألا أفارق يدا أمسكت بي ما دامت لم تتركني هي ، فكيف أفارقك ؟ قلت : من أين أتيت بهذا العهد ؟ قال : ألم تقرأ قوله تعالى “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” فما دمت تجاهد بي فالله يزيدك مجاهدة ، فاحمل المسئولية وخذها بقوة . فقلت : الله المستعان .
الخاطرة التاسعة والعشرون:
ظننت يوما أني سوف أستطيع أن أُحْرج قلمي وأجد له سلبية ـ من باب مشاكسة الأحبة كعادتنا دائما ـ فقلت له : سوف أضربك اليوم في مقتل ! قال : هات ما عندك. فقلت : لقد أكثرتَ من مدح نفسك وذِكر مآثرك ، وأنا مقِرّ بها ، ولكن ماذا عن الشعراء والكُتّاب الذين استخدموك أداة في نفاقهم وفسقهم ؛ فقد تغزل بك عمر بن أبي ربيعة ووصف النساء بما يُحْرج أهل العفاف ، ومدح بك النابغة الذبياني الملوك ، وتملق بك المتنبي الأمراء ، وبك أشبع أبو نواس الخمر وصفا ، وكنت سيفا مسلطا للهجاء عند بشار بن بُرْد ، ثم دعك من هذا كله يكفيك ذما أن الله قال “والشعراء يتبعهم الغاوون” وأنت أداة الشعراء .
فتبسم القلم تبسُّم المغضَب ، وشمر عن ساعديه ، واعتدل في جِلسته كأنه ينذر بهجوم ، وقال : أهذا كل ما عندك يا عزيزي ؟ أهذا هو المقتل الذي تصيبني فيه ؟ قلت : نعم ، أجبني ولا تتملص ! قال : ماذا لو كان ابن أبي ربيعة متغزلا في زوجته ، أو يتغزل كاتبا دون أن يتعرض لامرأة لا تحل له ؟ ماذا لو كان النابغة صادقا في شعره وأبو الطيب غير متملق ؟ ماذا لو كانت الخمر حلالا ؟ ماذا لو هجا بشار من يستحقون الهجاء من ذوي الظلم والفجور ؟ قلت : لكان شعرهم ممدوحا وعملهم منقبة . قال : إذن هذا يتعلق بنيتهم وهم يحاسبون عليها ، ولا شأن للقلم بما ينتوون ، يبقى عليهم إثمهم ويبقى لي فضل التعبير وجمال التصوير وروعة البيان ، أما الآية فهي دليل لي لا علي ! قلت : كيف ؟ قال : لقد ذمت الشعراء لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، أما فن القول فيبقى فنا ، فلم تذم الآية القول والشعر ، ولو أنهم قالوا ما يفعلونه ، وكتبوا ما يعتقدونه من الحق لكانوا ممدوحين لا مذمومين ، أليس كذلك يا عزيزي ؟ قلت : بلى ! قال : هل لك من حجة أخرى ؟ قلت : لا . قال : انصرف راشدا ، ولا تحاول ذم من أقسم الله به في كتابه . قلت : انتهيت انتهيت!
الخاطرة الثلاثون:
قلت لقلمي : ما أجمل الحوار معك ! نختلف كثيرا ولكننا لا نتصارع ! وربما أسمعتني ما يوجعني وأسمعتك ما يؤلمك ، ولكن ننتهي دائما من حوارنا متحابين ! لقد تعلمت أدب الحوار منك . قل لي يا قلمي : لماذا يؤدي الحوار بالناس إلى الشقاق والنزاع ؟ قال : أنا أخبرك يا صديقي بقول ربما لم تسمعه من أحد قبلي ! قلت : قل ، فدائما تسمعني ما لم أتعود سماعه ، ونعْم الصديق من وجدتَ عنده من الخير ما لم تجده عند غيره ! قال : الناس تتحاور لمقصد واحد ، يتحاورون للاتفاق ، فكل يريد من غيره أن يوافقه ، فإذا لم يستطيعوا أن يحققوا مرادهم تنازعوا عصبية وحمية لرأيهم . قلت : سبحان الله ! وهل نتحاور إلا من أجل هذا يا صديقي ؟ من أجل أن نتفق ! قال : هذا هو الخطأ الذي شق عصا المتحاورين ! ظنوا أن الحوار للاتفاق فحسْب وليس لأغراض أخرى . قلت : اذكر لي أغراضا أخرى للحوار . قال : يا صديقي: نحن نتحاور لنتبادل المعلومات ، نتحاور لمعرفة ما في القلوب ، نتحاور للتعبير عن الرأي وإظهار ما نعتقده من الحق ، حتى وإن تحاورنا بغرض الاتفاق فليس لزاما أن يكون اتفاقا على ما نريده نحن ، فقد أتفق مع من يحاورني على رأيه هو وأتنازل عن وجهة نظري ، أو نتفق نحن الاثنين على شيء آخر غير ما يريده هو وما أريده أنا ، مثل أن نصل إلى حل وسط . قلت : نعم صدقت ! قد أرهق الناس أنفسهم حين يتحاورون من أن أجل أن يقنعوا غيرهم بوجهة نظرهم فحسب .
الخاطرة الواحدة والثلاثون:
رآني قلمي مهموما فقال لي : ما لك يا عزيزي؟! قلت : أأنا عزيزك حقا ؟! قال : نعم وهل تشك في هذا ؟! قلت : لم جعلتني عزيزك ؟ قال : كل من نشر بي حكمة أو كشف بي مكنونات نفسه أو وجد لذة في خلوته معي فهو عزيزي . قلت : هذا حظك من الناس ، فما حظهم منك ؟ قال : أكون عزيزهم كما كانوا أعزتي ، وأزيدهم على هذا بألا أخذلهم في موطن احتاجوني فيه ليكتبوا ما أرادوا ، وأن أرفع ذكرهم وقدرهم . قلت : أيحدث هذا حقا ؟! قال : نعم ، ولكنكم تستعجلون ! قلت : دون ذلك تجرع النفوس مرارة الألم ، ومعالجة الأشواك والأشواق ، وأن تبكي العيون دما !! قال : لا أكْذِبك ، لقد صدقتَ ! ولكن اعلم أن بعد ذلك راحة الضمير ، وفرحة التمكين ، اصبر اصبر يا عزيزي! فما أعطي أحد عطاء خيرا من الصبر ، وسر واعمل في ظلمات الليل ولا تستوحش ، وعند الصباح يَحْمد القومُ السُّرَى .
(السرى : المسير ليلا)
الخاطرة الثانية والثلاثون:
قلت لقلمي في يوم اعتدل فيه مزاجي : لماذا لا نخرج معا نتنزه كما يتنزه الآخرون ؟ هل كُتب علينا نحن الاثنين أن نكون محبوسين بين الجدران ؟! هيا يا صديقي نرتع ونلعب ونلهو كما يلهو الصبيان ، فما الكبار إلا أطفال بأجسام كبيرة ! هيا نأخذ من هزلنا لجدنا ، ومن مرحنا لجهدنا ، فالأيام ساعة وساعة ، وفي كل منهما عون على الأخرى ! فابتسم كعادته ! فقلت له : تبسمك يُقلقني ، فما تبسمتَ يوما من كلامي إلا وجدت وراء تبسمك أشياء وأشياء! فقال : جدراننا أفضل لنا يا صديقي ! قلت : لا ، في هذه المرة الصواب ما أقول ! هيا فلا تضيق واسعا ، ولا تعسر يسيرا ، فلنعش كما يعيش الآخرون ! فقال : هيا نجرب لترى الحقيقة واقعا ، والواقع خير دليل على معرفة الحقائق . فانطلقنا معا ، وركبنا ونزلنا معا ، واستمعنا إلى أحاديث الناس معا ، ورأينا في طرقات مدينتنا ما رأيناه معا ، فلما انتهت رحلتنا سألني قلمي : أخبرني ماذا وجدت ؟ قلت : ما يُدمي القلبَ ويُحزن النفسَ ويُشيب الرأس ! وجدت أناسا ينطلقون لغير وجهة ولا هدف ، ورأيت سفسطة في الكلام لا مبرر لها إلا مضيعة الأوقات ، ووجدت أشكالا وظواهر تنبئك عن بواطن أصحابها ، فأفئدتهم هواء ، وعقولهم خواء ، ألهؤلاء نكتب يا صديقي ؟! نحن نضيع أوقاتنا إذن ! قال : لا يا صديقي ، لن يضيع عملنا سُدَى ، ولهؤلاء نكتب حتى تُزكَّى قلوبهم ، وتُنمَّى عقولهم ، لا تقلق يا صديقي فالمستقبل قادم بالخير إن شاء الله . قلت : ليتني ما خرجتُ ! قال : الحمد لله أن خرجنا ! قلت : ويحك ! كنت تنكرعليّ الخروج والآن تؤيده ! قال : نعم ، أنكرت عليك قبل الخروج لعلمي بمفاسده ، والآن أمدحه لأنه أوقفنا على ما يحتاجه الناس منا ! قلت : الطريق طويل يا عزيزي ! وما زال يحتاج إلى عمل دءوب وسعي حثيث ! قال : ونحن لها إن شاء الله ، فطريقنا طريق الأنبياء والمرسلين ، طريق الدعاة والمصلحين ، طريق الذين قضوا فيه نحبهم من الشهداء والصديقين ، ألا يكفيك أن تكون في طريق هؤلاء ولو كان طويلا مليئا بالأشواك! قلت : بلى يكفيني ويكفيني!
الخاطرة الثالثة والثلاثون:
قلت لقلمي : هذا آخر العهد بيننا ، فوداعا يا صديقي ! قال : عن أي وداع تتحدث ؟ قلت : سأودعك بهذه الخاطرة من (حوار مع قلمي)! قال : يا صديقي ليس وداعا ! قلت : كيف : قال : ليس هذا آخر العهد بيننا ما دمت تكتب بي ، أيا ما كان الذي تكتبه ، ألست تكتب بي خواطر أخرى ؟ قلت : بلى . قال : إذن ليس وداعا ! قلت : ولكنه وداع لهذه السلسلة . قال : وليكن ، فليس العهد بيننا حوار هنا وسلسلة هناك . قلت : صدقت ، فبم تنصحني في ختام هذا الحوار ؟ قال : دوِّن أفكارك دائما وإن لم تكتمل ، فالفكرة كالطفل تولد ثم تكبر وتنمو حتى تكتمل ، فإن لم تدونها ماتت في مهدها . ولا تستهن بأي فكرة ؛ فربما لا يكون هذا يومها ، ويكون وقتها الغد . واجعل العقل والقلم قرينين لك ، فقلمك في يدك ما دمت تفكر ، سجل ثم سجل ، وحين تكتمل فكرتك أخرجها للناس ، ولا تكتمها فتموت بموتك ، فرب فكرة أحيتْ أمة! قلت : نعم نصحت فصدقت ، وأرشدت فهَديت . قال : والآن أخبرني وأخبر قراءك بالخواطر الجديدة . قلت : خواطر (أتدري لماذا؟) قال : موفق بإذن الله . قلت : آمين.