القاهرة ـ مصر
معايشة القرآن الكريم

دموع العاشقين ـ (7) خواطر

الخاطرة الأولى:

حين تنام العيون ، وتمتلئ السرر بأهلها ، ويقطع الليل أغلبه ، ويسكن الوجود ـ فإن العاشقين لا تغني عنهم سررهم شيئا ، فقد هجرتْ اعينُهم النومَ فهجر النومُ أعينَهم ، فقاموا يخلون بربهم ، ويبثون إليه أحزانهم ، فتنهمر دموعهم على خدودهم ، حينئذ يحلو اللقاء ، وتصبح الشكوى متعة ، ويصبح الألم أملا ، ويصير مر الهموم حلاوة الطاعة ، فلا كلمات ولا قصائد تغني في وصف تلك الحال ، يكفيك أن تعرف أنك إن ذقتها فلن تتركها ولو بملء الأرض ذهبا .

الخاطرة الثانية:

قالوا : لمَ كل هذا الحنين لشيء لم تلْقَه؟! ولم هذا البكاء علي حبيب لم تره عينك؟! وكيف تبكي العين من لا تراه ؟! قلت : وأشد الحب لمن رآه القلب ولم تره العين ، وأعظم الشوق لمن عرفتْه البصيرة ولم تره الباصرة ، وأجمل العشق لمن عرفتَ عنه أنه يحب لقاءك أكثر من حبك للقائه ، قالوا : فإذا كان يحب لقاءك فلم يُبقيك هنا ؟! لماذا لا يأخذك إليه ؟ قلت : لأنه يحب سماع صوتي تلهفا عليه ، قالوا : وماذا تحب أنت : تتلهف عليه هنا فتزداد تعطشا أم تلقاه هناك فترتوي ؟ قلت : منتهى الحب أن تحب ما يحبه الحبيب ، وقد اختار لي أن أحنّ إليه إلى أجل قدره لي ، وبعده يحلو اللقاء . قالوا : وقد تُعذَّب بهذا الانتظار ؟ قلت : بل متعتي في عذاب الحنين إليه ، وعلى قدر عذاب الانتظار يحلو طعم اللقاء .

الخاطرة الثالثة:

بكت عيناي شوقا إليه ، وهفا الفؤاد تلهفا عليه ، ونبض القلب بأنين الحنين . إلهي لا تدع من اشتاق إليك في هذه الدنيا إلا لما تحبه من الشوق إليك ، ولا تبقه في دار حجبته عن لقائك إلا ليزداد إليك حبا وقربا ، فحرام على من اشتاق البقاء في دار البعاد إلا لزيادة القرب والشوق ، ولا قرت عين المشتاقين بملذات غير لذة مناجاة من اشتاقوا إليه ، إلهي إن كنت أبقيتني للشوق إليك فزدني بقاء ، وإن كنت أبقيتني لغير زيادة القرب والشوق فخذني إليك أخذ الكرام عليك ، فلا خير في دنيا لا نزداد فيها شوقا إليك .

الخاطرة الرابعة:

قالوا : نعشق كما تعشق . قلت : وهل منع عشقي عشقكم ؟ قالوا : ولكنك تتغنى بعشقك! قلت : وهل يضركم ذلك ؟! قالوا : لا ، ولكن ما هذه الدموع التي سالت لعشقك ؟! قلت: أوليس لكم دموع مثلها تسيل لعشقكم ؟! قالوا : لا . قلت : إذن لم تعشقوا ! قالوا : علِّمنا كيف نبكي لعشقنا . قلت : ذلك لا يعلَّم ، بل أعلّمكم كيف تعشقون ، فإذا عشقتم سالت دموعكم . قالوا : إذن علِّمنا كيف نعشق . قلت : الزموا باب الحبيب في الخلوات ، وأكثروا من المناجاة ، واسجدوا واقتربوا ، وكلما أهمكم أمر اهرعوا إليه . قالوا : ولكنا نفعل ذلك أحيانا . قلت : ليس في العشق أحايين ، بل هو الدوام والملازمة حتى يفتح الحبيب .

الخاطرة الخامسة:

إلهي ! يا من أريتنا نفسك بعيون بصائرنا بما يغنينا عن رؤيتك بعيون رءوسنا، وجعلت محبتك في قلوبنا أشد من محبة غيرك فقلت “والذين آمنوا أشد حبا لله” فوعزتك لنحبنّك محبة تباهي بها ملائكتك ، ولنعكفن علي محبتك ما تعاقب الليل والنهار ، ولنبكين شوقا إليك بكاء الطفل الذي فقد أمه وينتظر لحظة لقائها ، ولنعزمن علي طاعتك عزم من لا يريد الإياب عنها ، ولنلزمن بابك ما بقينا في هذه الحياة حتي يُفتح لنا ، فاقبلنا اللهم لك محبين ولا تردنا عن بابك بذنوبنا خائبين .

الخاطرة السادسة:

قالوا : لم كل هذه الدموع وما أغنت عنك شيئا ؟ فلو انشغلت بعمل صالح لكان خيرا لك ! قلت : كذبتم ! كم من دمعة صادقة أغنت عن قيام ليلة كاملة ! وكم من دمعة كانت بابا لتوبة نصوح ! وكم من دمعة جعلت صاحبها في ظل عرش الرحمن “ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ” وكم من دمعة كانت حجابا لصاحبها من النار “عينان لا تمسهما النار :عين بكت من خشية الله … “! وكم من دمعة أعذرت صاحبها إلى الله حين يتخلف عن أفضل الأعمال “ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ” فقل لي : هل بمثل الدمع عمل صالح ؟!

الخاطرة السابعة:

قالوا : نعشق كما تعشق . قلت : لو علمتم من أعشق لعلمتم أنكم بعشقكم تلعبون ، قالوا: أخبرنا حتي نتعلم منك كيف نعشق، قلت : هل رأيتم حبيبا يحبكم قبل أن تخلقوا ، ويرعاكم حتي تعوا وتشتدوا ، ويظل يرزقكم ويعطيكم وإن قصرتم في شكره ، تنكرون فضله فيمهلكم حتي تعرفوا حقه، وتعصونه فلا يعجل عليكم بالعقوبة حتي تعودوا إليه، فإن شكرتموه زادكم ، وإن لم تشكروه ظل يعطيكم لا يمنع فضله عنكم أبدا، هل رأيتم حبيبا يحبكم دون أن تنفعوه ؟ هل رأيتم حبيبا يمنحكم دون أن تعطوه ؟! قالوا : صدقت . قلت : قد عرفتم فالزموا باب محبته ، ولا تحيدوا عن طريق شكره ، قالوا : ولكن كيف نصل إلى عشقه ونبكي شوقا إليه ؟ قلت : من لزم الطريق وصل ، ومن أطال طرق الباب فُتح له .

شارك المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on tumblr
Share on pinterest

شارك

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on tumblr
Share on pinterest

مقالات ذات صلة

لهم في الدنيا خزي

استوقني قوله تعالى (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فقلت : خزي وخذلان في الدنيا ، وعذاب عظيم في

اقرأ المزيد »

لهم في الدنيا خزي

استوقني قوله تعالى (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فقلت : خزي وخذلان في الدنيا ، وعذاب عظيم في

اقرأ المزيد »

“تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”

لماذا تكررت الآيتان (134 و 141) من سورة البقرة: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا

اقرأ المزيد »

نموذج العمل الجماعي

من النماذج القرآنية التي تمثل وحدة متكاملة عن العمل الجماعي ـ ما ذكره الله تعالى في سورة النمل عن سيدنا سليمان عليه

اقرأ المزيد »